تحكي الفوتوغرافيا القديمة تاريخا لم يُكتب، تكشف أسرارا، تبوح بقصص، تفتح الباب لقراءات جديدة لأحداث مضت، كنوز من المعارف والاكتشافات ترويها الفوتوغرافيا النادرة، التي تستهوي محبين وهواة كثر ينفقون أعمارهم في جمعها. والتقت “العرب” مكرم سلامة أكبر جامع لأرشيف الفوتوغرافيا في مصر، إذ يمتلك نيغاتيف 600 ألف صورة مختلفة لفنانين وفنانات وملوك وزعماء وساسة ووزراء وشخصيات عامة وأحداث تاريخية مهمة. ويرجع بعضها لبدايات القرن العشرين بعد سنوات قليلة من دخول التصوير الفوتوغرافي إلى مصر على يد المجريين والأرمن. ويمتلك الرجل نحو ألفي أفيش لفيلم سينمائي، يرجع بعضها إلى منتصف الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، حيث كانت وسيلة الدعاية الأولى للأفلام هي لصق الأفيشات على الجدران. وبدت على الرجل السبعيني مسحة من الحزن والأسى، وهو يسترجع زمنا منسيا اعتبره كثيرون زمن التفوق والرقي بمصر، في قيمه ومبادئه وأخلاقياته. عرفت مصر فن التصوير الفوتوغرافي لأول مرة في سنة 1890 عندما أنشأ المصور المجري بيلا أول استوديو تصوير له في القاهرة، ثم انتقلت مهنة التصوير لاحقا إلى الأرمن واليونانيين والطليان قبل أن يحترفها مصريون. وكشف سلامة أنه يقوم بجمع الصور الفوتوغرافية منذ أكثر من خمسين عاما، وأنه طاف بدول عدة، شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ليتعامل مع ورثة المصورين القدامى والفنانين والشخصيات المعروفة ليشتري منهم نيغاتيف الصور لإنقاذها من الضياع والتلف. نيغاتيف الصور ذكر سلامة أن باعة الروبابيكيا كانوا يبيعون آلاف النسخ من نيغاتيف التصوير بالاستوديوهات القديمة بالكيلو، حيث كان يقوم البعض بغسلها بطريقة معينة لاستخراج الفضة وخردتها منها، ثم يقوم ببيعها لورش تصنيع الفضة مرة أخرى دون أن يهتم أحد بالصور التي تحتوي عليها تلك الأفلام. ويعني ذلك أن حكايات وأسرار عديدة دفنت مع أصحابها لأن صورهم لم تصلنا وتعرضت للتلف والنسيان. وقال سلامة إن الفوتوغرافيا القديمة تؤرخ للعديد من الأحداث التي لم يتم توثيقها في التاريخ، وتساهم في كشف جوانب لم يعتن المؤرخون برصدها بشكل دقيق. وضرب الرجل السبعيني مثلا بقصة المحمل الشريف الذي كان يخرج كل عام قبيل موسم الحج من مصر إلى بلاد الحجاز حاملا كسوة الكعبة، ويتم الاحتفال به في القاهرة احتفالا شعبيا ورسميا يتم خلاله وضع كسوة الكعبة المصنوعة بقماش القباطي على عربة كبيرة تجرها بعض الخيول وتنطلق من قلعة محمد علي بالقاهرة، وحولها علماء الدين، وكبار رجال الدولة، وبعض أبناء البلد، وسط حراسة قوات الشرطة المصرية والإنجليزية، لتطوف كافة شوارع وميادين العاصمة ليراها الناس. وخص صاحب أكبر أرشيف للصور “العرب” بمجموعة صور نادرة لمسيرة المحمل الشريف ترجع إلى الفترة من 1916 إلى 1920، مؤكدا أنها تنشر للمرة الأولى، وهي من المجموعات شديدة الندرة في سوق الفوتوغرافيا القديمة. وأوضح أن تصوير المحمل كان قاصرا على مصوري الملك، ومصور هذه المجموعة تحديدا كان رجلا نمساويا غير معروف استعانت به السلطنة المصرية قبل تحولها إلى مملكة سنة 1920 وتوفي الرجل في ذلك العام، ولم تنشر في أي مجلة أو جريدة صور للمحمل تعود لذلك التاريخ، وهناك صور قليلة نشرت لكنها ترجع إلى حقبتي الثلاثينيات والأربعينيات. كما أن نغاتيف الصور مازال بحالة جيدة ما يجعلها واضحة، حتى أنها تكشف ملابس المصريين في ذلك الوقت، بدءا من علماء الدين ورجال الشرطة، وحتى العامة من المصريين أو الأجانب، فضلا عن الإطلال على الطرق والشوارع والميادين الرئيسية. ويبدو لافتا في الصور أن غطاء الرأس، سواء كان العمامة لمن يرتدي الجلباب أو الطربوش لمن يرتدي البدل كان أمرا ملزما للجميع، ولا تظهر في أي من الصور نساء يسيرون في الاحتفال، وتبدو الشوارع أكثر نظافة وأقل ازدحاما. كشف سلامة أن بعض الصور يمكن أن تلفت الانتباه لشخوص مثلوا محطات مهمة في تاريخ الفن والثقافة واندثر ذكرهم ولم تعرف الأجيال التالية بما قدموه وحققوه من نجاح، مثل الممثل المصري اليهودي شالوم آنجل. وأضاف أن هذا المبدع المنسي كان من أوائل أبطال فن السينما في بداياته بمصر، وقدم عددا من الأفلام الصامتة كان منها فيلم “الكوكايين” سنة 1930، وفيلم “5001” سنة 1932، وذاع كممثل كوميدي موهوب، حتى أن المخرج الشهير توجو مزراحي أخرج له عدد من الأفلام الكوميدية مثل “شالوم الترجمان” سنة 1935، و”شالوم الرياضي” سنة 1937، وخف الاهتمام فيما بعد مع اتساع موجة العداء تجاه اليهود بسبب احتلال فلسطين، وغادر الفنان اليهودي المصري إلى أوروبا ليموت فجأة بأزمة قلبية وعمره لم يتجاوز الـ48 عاما. وقال إن هناك صورا أخرى لفنانين تعد نادرة جدا، إذ تظهرهم في مشاهد مختلفة من أفلام قاموا بالتمثيل فيها، لكن لا توجد نسخا منها للعرض. وأشار إلى أن شركات الإنتاج الفني في مصر تعرضت للتأميم خلال الستينيات، وقامت الإدارة الحكومية الجديدة ببيع الأوراق والصور والأفيشات القديمة ونيغاتيف فوتوغرافيا الأفلام باعتبارها مخلفات، ما دفعه إلى شراء بعضها وطباعة الصور وتسجيلها إلكترونيا للحفاظ عليها. ومن الفنانين والفنانات الذين يقتني صورا لهم: أم كلثوم، صباح، محمد عبدالوهاب، فريد الأطرش، محمد فوزي، إسماعيل ياسين، علي الكسار، عبدالفتاح القصري، أنور وجدي، ليلى مراد، وأسمهان. ولفت سلامة إلى أنه سلم التلفزيون المصري ومكتبة الإسكندرية صورا ووثائق نادرة، تمثل تراثا إبداعيا لا يمكن طمسه، ويقوم بعرض بعض الصور الخاصة برواد الفن المصري على صفحته على فيسبوك كنوع من التعريف للأجيال الشابة بروعة وريادة جيل الفنانين الأوائل، لأن هدف الفوتوغرافيا تذكير وتنبيه الناس لإنجازات وتفوق السابقين للعمل على احتذاء بها. تبدو حكايات جمع الفوتوغرافيا عجيبة، إذ كان الرجل يعرف من باعة الروبابيكيا عند تصفية بعض محلات التصوير والمكاتب القديمة فيذهب عارضا شراء المخلفات، مبديا حرصا شديدا على شراء نيغاتيف أفلام التصوير، ثم يقوم بفتح عينة عشوائية من النيغاتيف وينظر فيها قبل أن يعرض سعرا. وروى مكرم أن هناك مصورا شهيرا في الإسكندرية كان مسؤولا عن تصوير الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر كلما زار الإسكندرية، وذهب لمحله ليشتري نحو عشرين ألف نيغاتيف بحثا عن صور المحاولة الشهيرة لاغتيال عبدالناصر في ميدان المنشية عام 1954 على يد جماعة الإخوان المسلمين، لكنه فوجئ بعد شراء كافة المخلفات بعدم وجود تلك الصور، وعلم أن إحدى الجهات الحكومية سبقته وأخذت النيغاتيف الخاص بهذا الحدث. وحول تقييمه للصور النادرة قال سلامة، أي صورة غير منشورة لها سعر مرتفع، والصور التي تشكل مجموعات كاملة تحكي عن حدث ما لها قيمة جيدة، فضلا عن صور العائلات الأجنبية في مصر التي لم تترك ذرية لها وهاجرت بعد عام 1952، لذا فإنه يحتفظ بالعديد من الصور التي لم تنشر أبدا وهو لا يسمح بنسخها حفاظا على قيمتها، موضحا أن لديه على سبيل المثال مئة صورة نادرة جدا للزعيم المصري سعد زغلول (1858ـ 1927)، كما أن لديه صورا غريبة لكثير من الساسة والمشاهير الآخرين. ويواجه عاشق الفوتوغرافيا حاليا مشكلة لطباعة الصور بهدف عمل معارض ثقافية تتمثل في عدم توافر الورق الخام الخاص بطباعتها، لانقراض مهنة تحميض الصور، وتحول غالبية الناس للاحتفاظ بالصور إلكترونيا على كمبيوتراتهم وهواتفهم الشخصية. ولا تقتصر هواية الرجل السبعيني على جمع الفوتوغرافيا والأفيشات فقط، إذ أنه يصطدم كثيرا خلال جولاته وبحثه بوثائق نادرة وأوراق تاريخية مهمة، ما يدفعه إلى تصنيفها وإهدائها إلى جهات مصرية مختلفة، وسبق وأن عثر على تعاقدات إنشاء أول خط سكة حديد في مصر سنة 1854 وقام بإهدائها إلى وزارة النقل، كذلك وجد أوراقا رسمية تخص الكثير من العائلات الأرستقراطية الكبرى تعود إلى القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وقام بإهدائها للجيل الحالي من تلك العائلات.
مشاركة :