في الثلث من شهر فبراير الماضي.. احتفلت إذاعات العالم و»تلفزيوناته» و»فضائياته» بـ(ذكرى) مرور أربعة وأربعين عاماً على رحيل (كوكب الشرق) وكروانه: سيدة الغناء العربي (أم كلثوم)، التي خرج لـ(وداعها) أكثر من خمسة ملايين مواطناً مصرياً.. امتلأت بهم شوارع وميادين «القاهرة»، ومثلهم من شتى بقاع العالم العربي: من مغربه إلى مشرقه، ومن شماله إلى جنوبه.. فلم تكن (أم كلثوم) في فنها وغنائها تغنى لـ(مصر ونيلها) أو أهراماتها وضفافها وشطآنها وآثارها وحدهم.. ولكنها كانت تغنى لـ(كل العرب)، ولـ(تاريخهم) و(أمجادهم) و(أحلامهم) و(وحدتهم).. التي جعلت أحد زعمائهم يقول: (إن الجهود التي تبذلها «أم كلثوم» في سبيل الوحدة العربية.. تفوق جهود كثيرين من زعمائهم). *** لقد شاءت (المصادفة) وحدها أن استمع إلى نبأ وفاتها الصاعق في ذلك المساء البارد والحزين من ليالي شهر فبراير.. وأنا في مدينة «سوسة» التونسية: البلد المفتون بـ(أم كلثوم)، والذي استضافها عام 1968م لإحياء أربع حفلات غنائية يُجند دخلها لـ(مجهود مصر الحربي) آنذاك.. فكان «التوانسة» من فرط حبهم وتعلقهم بـ(أم كلثوم).. يقدمونها في كل ليلة من ليالي إقامتها في العاصمة التونسية (تونس) «مرتبة» من أجمل الزهور والورود التونسية لـ(تنام) عليها!، ليجري على تلك الورود والزهور -في صباح اليوم التالي- مزادات لبيعها وإضافة حصيلتها لـ المجهود الحربي) أيضاً.. فقد كنا آنذاك في رحلة صحفية سياحية إلى (تونس): هندسها المرحوم الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين.. بحكم صداقاته وعلاقاته مع السفير التونسي بجدة آنذاك.. لـ(التعرف) على الجمهورية التونسية ومدنها وشواطئها وسواحلها التي لم نكن نعرفها آنذاك: من «تونس» العاصمة إلى (قرطاج) إلى (صفاقس) و(قابس) إلى (جزيرة جربة) و(عين دراهم) الخلابة، وقد كنا ثلاثة من الكتّاب والصحفيين -مع حفظ الألقاب- هم: محمد الشدي رئيس تحرير مجلة اليمامة السابق، وعبدالله الماجد مدير تحرير جريدة الرياض للشئون الثقافية السابق، إلى جانب (رابعنا) مهندس الرحلة وربانها (أبو مدين). ولقد كنا طوال تنقلاتنا من مدينة تونسية إلى أخرى نتابع على موجات راديو الإذاعة المصرية أخبار كوكب الشرق ساعة بساعة بعد أن عادت إلى (مستشفى المعادي).. بقلوب واجفة داعية لها بـ(السلامة)، لكن ومع وصولنا إلى مدينة (سوسة) وجلوسنا في بهو الفندق.. كان التلفزيون التونسي يقدم لوحة حجم الشاشة لـ(النيل) والأهرامات وبينهما (كوكب الشرق) أم كلثوم.. وصوتها يردد في خلفية المشهد: (الروح الأمين - ومين يرحم أسايا، وأقول يامين ومين حيسمع ندايا)!.. لينزل علينا خبر موتها كـ(الصاعقة) على قلوبنا.. ليحل معه صمت كصمت المقابر!، فلا نجد ما نفعله غير أن نتفرق إلى غرفنا ليواسي كل منا نفسه. *** في تلك (الهنيهة) بين النوم واليقظة.. وجدتني استرجع بصورة تلقائية وربما توضعية مشاهد من أيام تألقها ونجاحاتها: كـ(يوم) أن رحب الرئيس الأمريكي الأشهر (دوايت آيزنهاور) بقدومها للولايات المتحدة الأمريكية لتلقى العلاج في مستشفى البحرية الأمريكية الأشهر، الذي ما كان يدخله من خارج أمريكا إلا الكبار والرؤساء والزعماء والقادة لتلقى العلاج فيه.. من التهابات في «غدتها الدرقية»، التي إن لم يُحسن علاجها.. فإنها ستفقد (صوتها)!! المعجز لتقوم بعد شفائها وهي تستعجل طمأنة جمهورها عليها.. بـ(حفل) في دار سينما (ريفولي).. كان لي شرف حضوره بصحبة الصديقين: الدكتور فايز بدر والأستاذ حسين منصوري، والذي شدت فيه برائعتها جديدة: (قصيدة الغار من نسبة الجنوب على محياك يا حبيبي). أو كـ(يوم) أن اصطفت الحكومة اللبنانية برئيسها (صائب سلام) على مدخل مسرح (عليه) بجبل لبنان في انتظار وصول (الكوكب الشرق) إلى المسرح لأحياء حفلها المتفق عليه.. فلم تصل إلى (مسرح عليه) إلا قرب الثانية عشرة ليلاً.. ليصبها الرئيس صائب سلام وعدد من وزرائه إلى جناحها.. لتبدأ وصلتها الأولى قرب الواحدة صباحاً. أو كـ(يوم) أن أبرق لها الرئيس الفرنسي الأشهر والأعظم: «شارل ديجول» في صباح اليوم التالي لليلتها الباريسية على مسرح الأولمبية) لتغنى للمجهود الحربي، معبراً عن شكر الفرنسيين لها على ما أمتعتهم به من غناء وأداء لم يشهدوا مثله من قبل. وهكذا.. أخذت تتوالى عليّ مشاهد تلك الإنجازات، التي ربما لم تعرفها حياة الكثيرين من الفنانين والفنانات، وعرفتها حياة (أم كلثوم) المتفردة: في اختياراتها، وسلامة ونصاعة لغتها، ودرامية أدائها وصادق وطنيتها، لتكون الفنانة العظيمة غير المتكررة بين كل فناني عصرها. حتى ليبدو وكأن حياتها كتاب نادر من نسخة واحدة.
مشاركة :