مرت أواخر الشهر الماضي أربعة عشر عاماً على رحيل إدوارد سعيد، ذلك المفكر الذي عاش بهوية جامعة تداخلت فيها عناصر شتى، متناقضة أحياناً، لا تجتمع إلا عنده، ولا تتكامل إلا فيه، حتى غيبه الموت وغادر المكان، بعد حياة ثرية امتدت الى سبعة عقود، عاش الأخير منها في صراع شرس مع المرض الخبيث قبل أن يذوي جسده النحيف، من أسفل العقل القوي المستنير الذي حمل عبء النضال الأخلاقي والسياسي الطويل، مغيباً ذلك الوجدان الذي امتزجت داخله الهويات كلها من عربية نبتت في فلسطين ونمت في لبنان وتفتحت في القاهرة، الى أميركية أينعت وازدهرت عبر مراحل الدرس والتدريس، وبين الأساتذة والزملاء والطلاب في جامعة كولومبيا حيث تعلم الأدب المقارن واستوعبه ثم وسع مداركه حتى بلغ به أفق النظرية الثقافية، مندفعاً الى الفضاء الفكري الرحيب عبر الكثير من المحاضرات والسجالات التي سجلت نزوعه الإنساني المتعلق بأسمى مثل التنوير كالعدل والحرية والسلام. وبجانب سجالاته ومناظراته شبه اليومية على صفحات الجرائد والمجلات وأمام حضور لقاءاته ومحاضراته، سجل إدوارد سعيد نزعته الإنسانية تلك بين دفتي عشرات الكتب، والتي يبقى من بينها كتابان محوريان في فكر القرن العشرين، ربما ظلا خالدين في ما بقي من الزمان: الكتـــاب الأول هو الاستشراق، الذي صدر عام 1978 ليثير موجة من التأمل وإعــــادة المراجعـــــة لكثير من أدبيات الثــــقافة الغــــربية التي كانت قد ترسمت وأخذت مواقعها المــــعرفية المستقرة وصار لها تاريخها الذاتي في بحـــث أصـــــول وتمثل وجوه الثقافة العربية - الإسلامية، حيــث يعـــــرف سعيد الاستشراق بوصفه تلك المؤسسة المشتركة للــتعامل مـــع الشرق: بإصدار تقارير حوله، وإجــازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه وتدريسه والاستقرار فيه، وحكمه. وبإيجاز، الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، وإعادة بنائه، وامتلاك السيادة عليه. وعلى رغم تأكيده أن هذا هو المنوال الذي نسجت عليه أغلب أعمال المستشرقين حول الثقافة العربية الإسلامية لصناعة صورة نمطية أخذت تتشكل منذ قرون، وتترسخ منذ القرن الثامن عشر دونما تساؤل جذري حول مدى صحتها أو حول آليات تشكيلها ومصادر إنتاجها، فإن سعيد يفرق تاريخياً، وثقافياً، كمياً ونوعياً بين نمطين من الاستشراق: أولهما (البريطاني - الفرنسي) وهو النمط الرئيسي للتصورات الاختزالية المتوارثة والمقننة التي طالما تحدثت عن فضاء استشراقي واسع يضم عوالم متباينة، تجمع بين الهند وشرقي المتوسط بأكمله، ونصوص الكتاب المقدس، وأقاليمه، وتجارة التوابل، والجيوش الاستعمارية، والتراث الطويل من الإداريين الاستعماريين، وقدراً ضخماً من تراث البحث، وأعداداً لا تحصى من الخبراء والمساعدين الشرقيين، وجهاز أستاذية شرقية وكوكبة من الأفكار الشرقية (الاضطهاد الشرقي، والأبهة الشرقية، القسوة الشرقية) وعدداً كبيراً من الملل والفلسفات والحكم الشرقية المدجنة للاستخدام المحلي الأوروبي. أما ثانيهما فيتداخل فيه نمط فرعي انتمي تاريخياً لدول أخرى لم تكن قريبة من عالم الشرق الى هذه الدرجة التي توافرت لبريطانيا وفرنسا مثل ألمانيا وإيطاليا، وإن كان قد نسج على منوال يقترب من منواليهما. أو نمط آخر تنامى بعد الحرب العالمية الثانية وهو النمط الأميركي منذ سيطرت الولايات المتحدة على الشرق، فصارت تتناوله بالأسالىب التجزيئية والصور الاختزالية ذاتها، وإن كان عبر وسائل مختلفة، لا تعول على كتابات الرحالة ولا أعمال الروائيين، ولا السير الذاتية لكبار الديبلوماسيين، بل تعتمد على دراسات المناطق، وجهود الخبراء المنتمين مباشرة للحقل السياسي، والأقرب صلة بتوجهات الهيمنة الاستراتيجية، والذين يعملون، صراحة أو ضمناً، في ظل المؤسسات الرسمية وتحت رعايتها. ما فعله إدوارد تحديداً هو تحليل الأعمال الأدبية المنتمية خصوصاً للنمط الأول من الاستشراق، وطرح الأسئلة العديدة خصوصاً حول النمط الاستشراقي الثاني، فأطلق موجة من المراجعات داخل كثير من الثقافات الفرعية في الغرب والشرق على السواء، أنتجت منذ الثمانينات نزعة إنسانية نقدية، وجدت لها أصداء في الثقافة العربية، أخذت تسعى الى فحص وتأمل موقفها التاريخي من الغرب انطلاقاً من معايير موحدة ومستهدية بمرجعية شاملة من قيم الحرية والعدالة والسلام، والى كشف التناقضات العميقة في الثقافة الغربية بين خطابها الفلسفي وممارساتها العملية، وهي النزعة التي مكنت إدوارد سعيد نفسه من أن يكون عربياً فلسطينياً يدافع عن قضيته المركزية على بعد خطوات من الكهف الصهيوني وعلاقاته الأخطبوتية بالمجتمع الأميركي، من دون أن يقع في تناقض مع هويته الرسمية كمواطن أميركي، إذ مكنته إنسانيته النبيلة، ومرجعيته المتسقة من التوفيق دوماً بين هذه وتلك. وأما الكتــاب الثـــانـــي «الثقافة والإمبريالية» فوصل فيــــه إدوارد سعيد الى ذروة الحــــس الإنساني في مواجهة تيار المركزية الغربية، الذي شكل تدريجياً منذ القرن الثامن عشر نسقاً فكرياً كاملاً متمركزاً حول ذاته، استند الى نتاج بعض العلوم الحديثة بخاصة في حقلي الأنثروبولوجيا واللغات، في تقديم نظريات ذات منحى عنصري واضح استهدفت تحقيق أمرين أساسيين: أولهما صياغــــة ذات غربية متطهرة، وموحدة، ومتجانسة، مستمرة في كـــل الزمن، وحاملة لأسمى القيم وعلى رأسها الحرية، ومرتكزة على عقلانية تلهمها مصادر التراث الغربي وعلــــى رأسها المعجزة الفلسفية اليونانية، وذلك دونما تناقضات أو حتى انقطاع في هذه المسيرة الممتدة منذ خمســـــة وعشرين قرناً من الزمان. بل يشرح سعيد كيف تم استثمار نظرية «الكيوف الأرسطية» وتوسيعها من جانب، واختــــزالها من جانب آخر بما يجعلها تدعم الفكرة القـــائلة بتفـــوق الإنسان الغربي. وثانيهما هو صياغة تصــور نقيض عن الآخر، يعج بكل ما هو سلبي، حيث تمتزج رذائل التخلف والغريزية والقهر، وترتفع الحدود «العرقية» بين الغرب والآخــرين كما دعا آرثر دو غوبينو مثلاً مؤكداً التفاوت بين الآريين وشتى الأعراق الأخرى. وقد أضـــاف نيتشه وهيغل الى هذه الحدود العرقية، طبقات فلسفية أعطتـــها أبعاداً أرقى وأخطر كرست للتفوق العقلي أيضاً وليــــس العرقي فقط. كما أضاف اليها أرنست رينان طبقات لغوية سعت الى وصم اللغة العربية/ السامية بالتخلف والقصور عن مجاراة اللغات الآرية، فتعالت هذه الحدود تدريجياً حتى شكلت أيديولوجيا متكاملة ادعت عبر توليفات نظـــرية وتحيزات علمية تبلغ حد التزييف بسمو الغرب عرقياً ودينياً وفكرياً، وبوجود جدران عالية فاصلـــة بينه وبين الشرق لا يمكن عبورها إلا بإعادة تربية هذا الشرق ومدينته، ولو عبر احتلاله واستيطانه. * كاتب مصري
مشاركة :