هل نحن على أعتاب "صدام" بين صندوق النقد ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي؟ أم أن الأمر لا يتجاوز "عتاب" بين مؤسستين ماليتين ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما؟ وقد يكشف قادم الأيام حقيقة الوضع بين المؤسستين اللتين تديرهما اثنان من أقوى النساء في عالم المال، إذ بجرة قلم منهما أو توقيع صغير يمكنهما أن يؤثرا في الأوضاع الاقتصادية في الكرة الأرضية أو المسيرة الاقتصادية لشعوب بأكمالها. فعلى غير العادة وخارج نطاق المألوف، حذرت كريستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولي، جانيت يلين رئيسة المجلس الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي الأمريكي) من مغبة الإسراع برفع أسعار الفائدة ودعتها إلى التروي والتريث وعدم الإقدام على تلك الخطوة قبل حلول عام 2016. وأعربت لاجارد عن خشيتها من أن يؤدي رفع أسعار الفائدة في أمريكا، إلى تأثيرات تتجاوز السوق المحلي لتطول الاقتصاد العالمي واقتصادات الأسواق الناشئة تحديدا. وإذ بررت لاجارد تحذيرها بأن المضاعفات الدولية لرفع الفائدة الأمريكية، هي السبب وراء اتصال الصندوق بالفيدرالي وتحذيره، فإن الجانب الأمريكي لم يصدر أي تعليق أو رد، واكتفت يلين بالقول في مؤتمر صحفي "ليس هناك آجال محددة لرفع نسبة الفائدة". وفي الحقيقة، فإن تحذيرات الصندوق من مغبة رفع الفائدة الأمريكية، تعد بالنسبة لعديد من الاقتصاديين، خاصة في الأسواق الناشئة محل تقدير، ولكن الأمر يختلف داخل الولايات المتحدة، إذ لا يوجد بعد اتفاق تام حول أكثر الأوقات ملاءمة للقيام بتلك الخطوة. فمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خفضت توقعاتها بالنسبة لنمو الاقتصاد العالمي، ومنحته درجة "بي -"، كما خفضت أيضا من توقعاتها بشأن نمو الاقتصاد الأمريكي هذا العام والعام المقبل، إذ يتوقع ألا يتجاوز النمو الأمريكي 2 في المائة هذا العام و2.8 في المائة العام القادم، مقابل توقعات سابقة كانت أكثر تفاؤلا بأن تبلغ نسبة النمو في الولايات المتحدة 3.1 و3 في المائة على التوالي. وحمل الباحثون هذا الانخفاض في النمو لعاملين أحدهما يعود إلى سوء الأحوال الجوية، ما أدى إلى إغلاق بعض الموانئ لأشهر مما تسبب في أعطال ضخمة في مجال التوزيع، أما العامل الثاني فكان الدولار القوي الآخذ في الصعود، وهذه النقطة الأخيرة هي محل الجدل بين الأطراف المختلفة بشأن مخاطر أو مكاسب أسعار الفائدة الأمريكية. الدكتور تشارلز رامزي نائب رئيس وحدة الأبحاث في الاتحاد الأوروبي يوضح طبيعة الجدل الأمريكي لـ "الاقتصادية"، قائلا إن هناك مؤشرات اقتصادية متضاربة بشأن الإبقاء على سعر الفائدة الأمريكي عند مستواه الراهن أو زيادته، ويمتد الجدل أيضا إلى المعدل المتوقع للزيادة، ولا شك أن رفع أسعار الفائدة عموما سيصب في صالح المصارف والمودعين، إلا أنه قد ينعكس سلبا على رجال الأعمال وقدرتهم على الاقتراض من البنوك لتوسيع نشاطهم الاقتصادي، لكن الأوضاع أكثر تعقيدا من ذلك. وأضاف رامزي أنه إذا أخذنا مؤشرات سوق العمل الأمريكي فسنجد أن الاقتصاد استحدث 280 ألف فرصة عمل جديدة في الشهر الماضي، وتلك الزيادة تعد أعلى من المتوسط العام للعام الماضي، وهذا مؤشر إيجابي يعزز الدعوة لرفع معدل الفائدة، ولكن علينا أن نتذكر أن الاقتصاد الأمريكي انكمش خلال الربع الأول من هذا العام بنحو 0.7 في المائة وهذا مؤشر على ضرورة التريث في قرار رفع أسعار الفائدة. وأشار رامزي إلى أن لاجارد كانت على صواب عندما أشارت إلى وجود "جيوب من الخلل" في الاقتصاد الأمريكي، ولهذا فإن تأجيل رفع أسعار الفائدة يمنح الأسواق الأمريكية ضمانات تحد من المخاطر الانكماشية. وكان الفيدرالي الأمريكي وخلال اجتماعه في نيسان (أبريل) قد أعلن أنه لن يرفع أسعار الفائدة في شهر حزيران (يونيو) الجاري مما أثار توقعات بأنه سيرفعها في أيلول (سبتمبر) المقبل، ولهذا يطالب عديد من الاقتصاديين أن يكون اجتماع المجلس الفيدرالي على أساس شهري وليس ست مرات فقط في العام لخفض حدة تلك التكهنات وتأثيراتها على الأسواق. ويتخوف البعض أن يؤدي إقدام الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة إلى انعكاسات سلبية على أسعار الأسهم وخسارة قطاعات كبيرة من المستثمرين. وقال لـ "الاقتصادية"، الدكتور وليم تشارلي أستاذ الاقتصاد الدولي بجامعة كينت، إنه إذا اتصفت العوامل الأخرى بالثبات فإن سوق الأسهم سيتضرر لأن المستثمر يقارن بين العائد المادي المتحقق من الأسهم، ونظيره إذا أودع نفس المبلغ في المصرف، أو في سندات الخزانة الأمريكية، ويمكننا القول بأن الاستثمار في الأسهم يعكس دائما قناعة المستثمرين بمدى صحة الاقتصاد الأمريكي، ومن ثم رفع الفائدة ربما يجعلهم أكثر يقينا بأن الاقتصاد الأمريكي في وضع قوي، ويعزز من توجهم للاستثمار في سوق الأسهم، ومن ثم فإن الصورة النهائية في الوقت الحالي ضبابية. إلا أن الصورة الغائمة بعض الشيء لتداعيات رفع الفائدة الأمريكية، لم تحل دون تزايد الأصوات الداعية لرفعها، ومن بينها أصوات رسمية مؤثرة في صنع القرار. وصرح وليم دودلي رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك لوسائل الإعلام قائلا، إنه إذا واصل سوق العمل التحسن وتوقعات التضخم ظلت على حالها، فأتوقع رفع أسعار الفائدة نهاية العام. ومع هذ فإن صندوق النقد الدولي يعتقد أن الفيدرالي الأمريكي تقع عليه مسؤوليات لا تقع على أي مصرف مركزي آخر في العالم. الدكتورة ليها ماك كلوتش الاستشارية في صندوق النقد من الداعين إلى تأجيل رفع أسعار الفائدة في أمريكا وتوضح لـ "الاقتصادية"، أن أي مصرف مركزي في العالم مسؤول أولا وأخيرا عن الاقتصاد الوطني، لكن الفيدرالي الأمريكي يقع على عاتقه مسؤولية إضافية، وهي تداعيات قراراته على الاقتصاد العالمي، نظرا للدور المركزي للدولار في التجارة والاستثمار الدوليين. وأشارت كلوتش إلى أن الاقتصادات الناشئة تمر بفترة مليئة بالمصاعب والتحديات، ورفع أسعار الفائدة الآن يعني زيادة المخصصات المالية في ميزانيات تلك الدول، لسداد ما عليها من قروض أجنبية مقيمة بالدولار، بالإضافة إلى انسحاب المستثمرين الأجانب ونقل استثماراتهم إلى أمريكا لارتفاع أسعار الفائدة. ويعتقد البعض أن تحذيرات صندوق النقد لم تكن موجها للفيدرالي الأمريكي فحسب، وإن حددته بالاسم، وإنما موجهة لجميع الاقتصادات ذات العملات الدولية وهي الدولار واليورو والاسترليني والين، بألا تقوم المصارف المركزية المسؤولة عن إصدار تلك العملات برفع أسعار الفائدة لأن الاقتصاد العالمي لا يزال في مرحلة النقاهة. جون فيندالي استشاري اللجنة المالية التابعة لبنك انجلترا (البنك المركزي البريطاني) يقرأ تحذيرات لاجارد باعتبارها ناقوس إنذار بألا ينخدع الجميع بالتحسن الطفيف الحادث في الاقتصاد الدولي، وأن التجارة الدولية وفقا لصندوق النقد لا تقف بعد على أرض صلبة تتحمل الاهتزازات التي ستنجم عن رفع معدلات الفائدة دوليا. وأوضح فيندالي، أنه على الرغم من تحسن الاقتصاد البريطاني، وأن المسؤولية الملقاة على عاتق بنك إنجلترا بشأن الاقتصاد العالمي أقل من تلك التي تقع على الفيدرالي الأمريكي، إلا أن بريطانيا لا ترغب في التسرع في رفع أسعار الفائدة البنكية، فالهزة الناجمة عن هذا الارتفاع والتغيير الذي سيحدث بشأن الأوزان النسبية داخل المنظومة الاقتصادية للمتضررين والرابحين من رفع سعر الفائدة على الاسترليني تدفعنا حاليا إلى التمهل. وحول توقعاته بشأن إمكانية رفع أسعار الفائدة في بريطانيا، قال فيندالي، إنه على الرغم من أنني لست من هواة التكهن، إلا أنني أتوقع بأن يأخذ محافظ بنك إنجلترا بنصيحة لاجارد للفيدرالي الأمريكي وألا يرفع الفائدة إلا العام المقبل.
مشاركة :