تعمد بعض الدوائر أو جهات الاختصاص إلى إسناد النَّظر في القضايا التي قد تمسّ شريحةً واسعةً من أفراد المُجتمع أو داخل نطاقٍ محدودٍ منه -التي قد ينتج عنها بعض الأضرار على الأفراد أو الممتلكات-؛ إلى مجموعة من الأشخاص يُطلق عليهم أحياناً مُسمِّى "لجنة الخُبراء" أو "لجنة النظر" أو "لجنة التحقيق"؛ بُغية الوصول إلى تقييم للوقائع وفق الرؤيَّة الشخصيَّة لأفراد هذه اللجنة أو تلك، ومن بين هذه القضايا، قضايا المُنازعات بين جهةٍ حكوميَّةٍ وبين أحد المواطنين، أو بين فردين أو أكثر من المُواطنين، بيد أنَّ هذه الِّلجان تتأخر كثيراً في استصدار القرارات الناجحة التي تكفل تحقيق العدالة المطلوبة. وهناك من المواطنين من يتساءل عن قيمة هذه الِّلجان ونتائج قراراتها في ظلّ وجود العديد من الهيئات والقطاعات الشرعيَّة والقانونيَّة والأنظمة المُتخصِّصة في النظر بهذه النزاعات أو المُشكلات، مثل "هيئة التحقيق والادِّعاء العام"، ونظام الإجراءات الجزائيَّة، ونظام المُرافعات، و"هيئة مُكافحة الفساد"، والمحاكم الإداريَّة والعامة. بيد أنَّ السؤال الأهمَّ هنا هو: لماذا سمحت نصوص هذه الأنظمة بالاستعانة بهذه الِّلجان دون تحديد ماهيَّة عضو هذه الِّلجنة، مُكتفيةً بالخبرة دون النظر إلى التأهيل العلميّ والمُمارسة الشرعيَّة والقانونيَّة، الأمر الذي قلَّل من القناعة بنتائجها التي وجدت الاحتجاج والنقض في كثير من الأحيان لدى المحاكم الشرعيَّة؛ مِمَّا تسبَّب في إطالة أمد تلك القضايا سنواتٍ طويلة؟. وصف الواقع في البداية قال "د.عبدالعزبز حمود المشيقح" -أستاذ علم الاجتماع بجامعة القصيم- إن لجان التحقيق الإداريَّة وُجدت لتخدم عمل المُنظَّمة التي تعمل فيها، والهدف الأساسي منها هو وضع حد للتجاوزات التي يمكن أن تحدث داخل هذه المنظمة، إلى جانب ضبط سير العمل بالشكل الذي خُطِّط له، سواء من الجهات العليا أو من الجهات الأقل مستوى، وذلك في القطاعين العام أوالخاص، مُضيفاً أنَّ هذه اللجان التي يتم تشكيلها للنظر في أيّ قضيَّة داخل هذه المُنظَّمة تعتمد أساساً على نوع المُشكلة والهدف الذي شُكِّلت من أجله، فعلى سبيل المثال إذا كانت القضية تمس أشخاصاً مُتنفِّذين داخل المُنظَّمة فإنَّ الإجراءات تتطلَّب عادةً فترةً زمنيَّةً طويلة ومُداولات مُطوَّلة، بل رُبَّما تدخَّلت فيها المحسوبيَّات، أمَّا إذا كانت تمس متهماً واحداً أو مُتَّهمين في مُستوياتٍ أقلّ أو غير مُتنفِّذين أو على هامش المُنظَّمة فإنَّ النتائج تكون سريعةً وحاسمةً. وأضاف بالنسبة لقانونيَّة هذه اللجان فإنَّ هناك أنظمةً ولوائح تُحدِّدها طبيعة عمل هذه المُؤسَّسات الحكوميَّة أو الأهليَّة، بيد أنَّه إذا تطلَّب الأمر أن تتدخَّل الجهات المُختَّصة كهيئة الرقابة والتحقيق أو التفتيش الإداري فإنَّه يكون هناك ارتباك لدى المؤسسة؛ لأنَّ لجان التحقيق رُبَّما امتدَّت وطالت أيادي خفيَّة قد يُبنى عليها العديد من القرارات بحسب ما نصَّت عليه اللوائح والأنظمة، مُوضحاً أنَّه يتم أحياناً تشكيل لجان خاصَّة داخل هذه المُنظَّمة؛ إذا كانت القضيَّة تمسُّ مواطنين أو ما يهمهم من أُمور لدى هذه الجهة، وبالتَّالي فلا يجب أن يتمّ تشكيل الِّلجان من داخل المُنظَّمة، بل يجب أن يكون هناك عضو من "هيئة التحقيق والادعاء العام" وعضو من "هيئة مكافحة الفساد"، مُوضحاً أنَّه إذا كثُرت هذه اللجان فإنَّه يتمُّ تشكيل لجنة لكُلِّ قضيَّة، لافتاً إلى أنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ هناك خللاً في نظام هذه المُنظَّمة؛ وذلك لوجود لائحة تتضمَّن الواجبات والثواب والعقاب مِمَّا يُغني عن تشكيل هذه اللجان. هل تتداخل مع عمل هيئات «التحقيق» و«الرقابة» و«الفساد» ولا تنسجم مع نظامي «الجزائيَّة» و«المُرافعات»؟ وأشار إلى أنَّ تشكيل هذه اللجان وإطالة أمد عملها وعدم الخروج بنتائج مرضية من ورائها كفيلٌ أن يُنهي حماس المُتقدِّمين للبحث عن حلول لهذه المُشكلات أو تجاهل هذه المُشكلات ونسيانها؛ الأمر الذي قد يُؤدِّي إلى تبلُّد مشاعر المُتحمِّسين والمُندفعين للبحث عن علاجٍ لمثل هذه القضايا وإحباطهم وإعاقتهم عن متابعة قضايا أخرى، بل رُبَّما نتج عن ذلك نتائج عكسيَّة يكون ضررها عليهم، مُؤكداً على وجود بعض العاملين في العديد من القطاعات الحكوميَّة مِمَّن يتردَّدون في الإبلاغ عن بعض التجاوزات التي قد تحدث في هذه القطاعات؛ خوفاً من أن تطالهم تبعات نتائج تحقيقات الِّلجان المُشكَّلة بشكلٍ غير نظاميّ على صعيد الوظيفة أو المكانة الاجتماعيَّة، لافتاً إلى أنَّ الهدف من معظم النتائج التي تتوصَّل إليها هذه اللجان هو تمييع هذه القضية أو تلك؛ خوفاً من وصولها للجهات الرقابيَّة القانونيَّة المُتخصِّصة. ولفت "د.المشيقح" إلى أنَّ هذه اللجان تعتمد على قوَّة رئيس المُنظَّمة وتكتسب الشرعيَّة من قوَّة نفوذه -على حد رأيه-، مُضيفاً أنَّ قرارات هذه اللجان تكون مُلزمةً داخل المُنظَّمة، مُوضحاً أنَّه في حال كان لدى المُتقدِّم أو صاحب القضية إلمامٌ بالقضيَّة ومتابعة لها ومن ثمَّ عمل على تصعيدها إلى الجهات الرقابيَّة، فإنَّه يتمُّ نقض قرارات هذه الِّلجان، مستشهداً بما يحدث في المحاكم الإداريَّة التي افتتحت في العديد من مناطق "المملكة"، إذ صدرت عنها أحكام قضائيَّة بنقض ما انتهت إليه هذه اللجان، وبالتالي فقد أصبحت الِّلجان المُشكَّلة داخل هذه المُنظَّمات تتحرَّى الدِّقة وتبحث عن الجوانب القانونيَّة؛ خوفاً من اصطدامها بقرارات المحاكم الإداريَّة. لجان تقرير الوقائع وأوضح "د.علي السواجي" -نائب رئيس لجنة المُحامين بمنطقة القصيم، وعضو الهيئة الإسلاميَّة للمُحامين- أنَّ لجان تقرير الوقائع "التحقيق" تُمثِّل ضرورةً قصوى في كثيرٍ من الأحيان، إذ أنَّه يُعرف عن طريق عملها ماهيَّة المُتنازع به، مُضيفاً أنَّ ذلك يتمُّ وفق العديد من الضوابط، ومنها أن تكون الإحالة لمن هو المُناسب لأداء هذا العمل بعد أن يكون قد سبق تأهيله إذا كان يعمل في هذه الجهة، إلى جانب تحديد عملها تحديداً دقيقاً؛ حتى لا يتوسَّع عملها، وكذلك تحديد وقت عملها؛ حتَّى لا تطول مُدَّة النظر، مشيراً إلى أنَّ دور لجان الوقائع "التحقيق" مهمٌ في كثيرٍ مِمَّا يُعرض عليها، إذ أنَّ بها يتمُّ الفصل، وفي غالب عملها يكون الحُكم من القُضاة بالمحاكم، حيث انَّه يُستند له في حيثيَّات الحُكم قبل النُّطق به. قانونيَّة الِّلجان وعن قانونيَّة عمل هذه اللجان، قال "د.السواجي": "الأصل في قانونيَّتها أنَّها تُستمد من الجهة الحكوميَّة إذا كان عمل المُخاطب خارج الجهات الحكوميَّة، أمَّا إذا كان عمله داخل الجهات الحكوميَّة فإنَّ هذا مقبولٌ نظاماً؛ لوروده في نصوص النِّظام"، مُضيفاً أنَّ الهدف من هذه اللجان ليس امتصاص غضب الجمهور أو تمييع القضايا، بل إنَّ دورها مهمٌ وهو بيان حقيقة ما يتمُّ التَّنازع به، مُشيراً إلى أنَّ نتائج عمل هذه الِّلجان مُلزمة شرعاً ونظاماً، وذلك بشروطٍ منها أن يكون عملها من خلال الجهة الحكوميَّة أو مأذوناً لها إذا كان عملها خارج الجهة الحكوميَّة. وأضاف أنَّ دور هذه اللجان مُكمِّلٌ لعمل "هيئة التحقيق والادِّعاء العام" ولنظام المُرافعات ونظام الإجراءات الجزائيَّة، مُوضحاً أنَّ نصوص هذه الأنظمة أشارت إلى الاستعانة بهذه الِّلجان، إذ نصَّ نظام المُرافعات الشرعيَّة تحت الفصل السادس وعنوانه "الخبرة" بورود مواد ولوائح نظَّمت هذا العمل، لافتاً إلى أنَّ هذا يُعدُّ من أهم ما صدر في عمل الِّلجان، مُؤكِّداً على أنَّه صدر في نظام الإجراءات الجزائيِّة تحت الفصل الثاني بعنوان "ندب الخبراء" ما هو مُعينٌ للمُحقِّق أن يستعين به من أهل الخبرة؛ لبيان واقعة الفعل من المتهم. أعضاء الِّلجان وعن أهليَّة أعضاء لجان الوقائع "التحقيق"، بيّن "د.السواجي" أنَّه يجب أن يُنظر لها من جانبين، الأول أهليَّة الأمانة أو المسؤولية، وهذا -ولله الحمد- موجود في العديد منهم بحكم ما منَّ الله به علينا بوجودنا تحت مظلَّة الشريعة الإسلاميَّة السمحة، أمَّا الجانب الثاني فهو أهليَّة الأداء للعمل، وهذه تحتاج إلى عمل وتطوير، خاصَّةً إذا كانوا داخل الجهات الحكوميَّة؛ لأنَّ عملهم يُعدُّ مُهماً، إلى جانب أنَّ معرفة الأُمور المعروضة عليهم يحتاج إلى شخصٍ صالحٍ لنظر هذه القضايا المعروضة، مُضيفاً أنَّه لا يُمكن معرفة ما يُعرض إذا كان التأهيل غير موجود، مُشيراً إلى أنَّ معرفة الشيء فرعٌ عن تصوّره. وأكَّد على أنَّه يُمكن الطَّعن بهذه الِّلجان عبر ما تمَّ تناوله في تقرير عملها، على أن يكون الطعن مُسبَّباً شرعاً، كأن يكون العضو قريباً لأحد الخصوم قرابةً تكون مانعةً شرعاً، كما يمكن أن يتم الطعن نظاماً كأن يكون عملها خارج ما تمَّ تكليفها به، مُشيراً إلى أنَّ ردّ عمل الِّلجنة أو الِّلجان أمرٌ مُمكن، وذلك بحسب ما نصَّ عليه نظام المُرافعات الشرعيَّة في المادة ال(134) من اللائحة التنفيذيَّة الأولى، إذ نصَّ على أنَّه إذا ظهر للقاضي ما يقتضي ردّ رأي الخبير أو بعضه فإنَّ عليه التسبيب عند الحكم وتدوينه في الضبط والصك.
مشاركة :