الخطاب الثقافي والحضاري من خلال الفن، واجتماع نخبة من الفنانين والمخرجين والنقاد والمفكرين في جلسات نقاشية معمقة، هو أحد الخيارات المهمة في لقاء مارس 2015 الذي عقد في الفترة ما بين 11 و16 مايو/أيار الحالي ضمن فعاليات بينالي الشارقة الذي انعقد بتنظيم من مؤسسة الشارقة للفنون بعنوان (الماضي، الحاضر، الممكن) وتستمر حتى 5 يونيو/حزيران المقبل. في لقاء مارس الحالي الذي يعتبر امتداد للقاء مارس 2014 الذي انعقد تحت عنوان (تعالوا - دعوة للتجمع) يبرز الهم القومي والتحرري للبلدان كأحد الثيمات الرئيسية التي يجتمع حولها نقاش مجموعة من الفنانين، وتمثل الحالتين الفلسطينية والأبخازية إضافة للتجربة اليابانية نموذجاً لهذا المسعى من خلال جلسات حوارية وكلمات وعروض فيلمية وأخرى مفاهيمية وبرامج مختلفة، وهو الذي دعت إليه قيمة بينالي الشارقة للعام 2015 أنجي جو، وكلفت تنفيذ هذه المهمة لكل من: كريستين خوري ورشا سلطي وإيريك بودلير وأيرين أناسطاس ورينيه جابري الذين وضعوا مجتمعين تصوراً عن كافة جوانب (لقاء مارس 2015) كجزء من إسهامات هؤلاء في بينالي الشارقة 12. التخصص الأكاديمي لعب دوراً كبيراً في المهمة المسندة لهؤلاء، فكريستين خوري على سبيل المثال، باحثة مستقلة وكاتبة، أما رشا سلطي فهي كاتبة وباحثة وقيمة ومبرمجة في مهرجان تورنتو الدولي للأفلام وتركز اهتماماتها في الأغلب على تاريخ انتشار الفن في العالم العربي، أما اريك بودلير فهو فنان بصري ومخرج أفلام تحاول أعماله أن تكتشف قدرة على التخيل السياسي والبحث عن الذات، وهو الذي نفذه من خلال مشاركاته الكثيرة في سان فرنسيسكو وباريس ولندن وغيرها. أحد الأبحاث التي أجريت في اليابان للتضامن مع فلسطين في سبعينات وثمانينات القرن الفائت، هو واحد من برامج (لقاء مارس 2015) وكان مجالاً للبحث والنقاش الذي قدمت له كريستين خوري في حوار مع ماي شيجينوبو، وهي صحفية يابانية وكاتبة مهتمة بشؤون الشرق الأوسط أشرفت على برنامج سياسي حواري في قناة (نيو ستار اليابانية بين 2008 و2011)، نشرت أعمالاً تكشف النقاب عن الربيع العربي من وجهة نظر وسائل الإعلام الغربية. في السياق ذاته قدمت كريستين خوري الناقد الياباني إيشيرو هاريو للحديث حول فيلم (ميثاق الانتحار الياباني) من إخراج الرسام والمخرج نوبويوكي أورا. (إنقاذ فلسطين: الفن والأمة) هو عنوان محاضرة ل دبليو جيه ميتشل توماس، أستاذ اللغة الإنجليزية وتاريخ الفن في جامعة شيكاغو، وهو كذلك منظر في مجال الإعلام والفنون البصرية والأدب، درس ميتشل في محاضرته، الأبحاث الفنية والأرشيفية الفلسطينية في سياق مضمونها الإحيائي، وارتباط ذلك بالمفهوم القومي من وجهة نظر نقدية صرفة، كان اهتمامه منصباً على دراسة العلاقات بين التعبيرات البصرية والشفهية في مضمون الخطاب الفلسطيني المتعلق بالقضايا الاجتماعية والسياسية في ضوء تحليل سيكولوجي لمثل هذه الخطابات. وبحكم التخصص والاهتمام المتزايد ل رشا سلطي في موضوعات الأفلام من وجهة نظر بصرية عرضت ضمن برامج (لقاء مارس) وتحت عنوان (قلق من الماضي: تحويل الأبحاث إلى معرض) لثلاثة فيديوهات عن ذات الموضوع الفلسطيني منها مقتطفات من فيلم خارج الإطار: رحلة عبر السينما النضالية لمهند يعقوبي، الذي بدوره يهتم بإيجاد مساحة لنقاش بين فناني ومخرجي الفيديو لتقديم خبراتهم في هذا المجال في أجواء من التفاعل والتشجيع. هنا، تلعب الفنون دوراً بارزاً في تأكيد أهمية الصورة كمنتج بصري يقيم علاقات تفاعلية تكتشف قدرة الفرد في اكتشاف معاني ودلالات الهوية، القابلة للنقاش والتحليل، ضمن برنامج موسع من برامج لقاء مارس تحت عنوان (استعارات من جغرافيا وظلال) الذي يستطلع أبحاث المعرض الدولي للفنون للتضامن مع فلسطين، الذي أقيم في متحف الفن المعاصر في برشلونة (ماكبا) ويعود تاريخ المعرض الدولي إلى عام 1978، وهو يندرج في إطار خط جديد استأنفه المتحف لاستعادة قصص وحكايات بديعة لبناء حكاية من حكايات الفن في القرن العشرين من منظور متحف وطني محدد لأمة بلا دولة. بعيداً عن فلسطين، تظهر أبخازيا، ذلك الإقليم الموجود بالمعنى المادي للكلمة، ولكنه وجود ليس قانونياً، أبخازيا تتمتع بلغة وعلم وحكومة، ولكنها لا تحظى باعتراف دولي واسع، وفي هذا السياق يعرض لقاء مارس (رسائل إلى ماكس) أنتج في عام 2014 للمخرج إريك بودلير، الذي يعرض نحو 74 رسالة وجهها المخرج سابقاً إلى ماكسيم جفينجيا وزير خارجية أبخازيا الأسبق وسفيرها في الإمارات اليوم، هذا البرنامج عرضه لقاء مارس تحت عنوان (تم افتتاح السفارة.. محادثة بين ماكسيم جفينجيا وحسن خان وهو فنان وموسيقي وكاتب يعيش ويعمل في القاهرة). يطرح الفيلم أسئلة حرجة: هل نحن أمام أمة ناشئة أم دولة قديمة؟ يرد المخرج على ذلك الرسائل إلى ماكس كانت أشبه برسالة في زجاجة ترسل في البحر، ولكنها وصلت في نهاية المطاف. الفن، وسؤال الدول متعددة العرقيات والأديان، طرحه البينالي ضمن لقاء مارس في جلسة نقاشية بعنوان (حالة الدولة) واستضافت كلاً من: خالد حوراني وفواز طرابلسي، الأول، فنان ومؤسس مشارك للأكاديمية الدولية للفن الفلسطيني في رام الله، والثاني هو أستاذ مساعد في تخصص العلوم السياسية والتاريخ في بيروت. طرحت الجلسة أشكالاً متعددة للدولة الحديثة في أوروبا التي تعيش حالة من التقلب والجمود، بفعل الهجرة على تخومها وسواحلها، بفعل الهجرة من ليبيا وتونس، كما هو حال الدولة في العراق وسوريا التي تطرح أسئلة عن تعدد العرقيات والأديان. وناقش المتحاوران شكل الدولة متضمناً شكل دولة فلسطين التي ظلت حاضرة في النقاشات، فبعد اعتراف اليونسكو والسويد بها ظلت رمزيات هذا الاعتراف مرتهنة لواقع الاستعمار الصهيوني، وظل سايكس بيكو حاضراً في فلسطين، كما ظل إرث سايكس بيكو الجديد حاضراً في عهد داعش مع تغير الحدود والأشكال القومية في أوروبا والشرق الأدنى وشبه القارة الآسيوية. الفن المعاصر حضر في لقاء مارس بقوة من خلال عرض قصير بعنوان مسألة ممارسة قدمته سارة رفقي وهي كاتبة وقيمة ومؤسسة مشاركة في الفنون في بيروت، ودارت مداخلتها حول ذوبان أو تلاشي حدود الواقع والخيال في الفن المعاصر، وقدمت مصطلحات جديدة في هذا الإطار، وكيف يمكن لاستراتيجيات العرض والتمثيل والأداء الفني أن تصنع أمراً يتجاوز حدود حكاية القصص أو التوثيق لحقيقة ما؟ وكيف يمكن لهذه الممارسات أن تعيد حساب أو توزيع المعقول؟ وكيف لذلك أن يعيد تشكيل العلاقات القائمة بين الموضوع والأداء والجمهور؟ وكان للفن المعماري نصيب من فعاليات لقاء مارس من خلال (الهندسة المعمارية للدولة) قدمه زافييه رونا، وهو مهتم بإعادة تركيز الممارسة المعمارية على نتائجها السياسية ومشاركتها الممكنة من أجل التعايش. وطرح رونا فلسفة المعماري الفرنسي جورج باتاي التي تقوم على اعتبار أن العمارة ليست هي إنتاج المباني، بقدر ما هي إنتاج للنسق الإيديولوجي الذي يحكم تصميمها، هنا، يصبح المعمار لغة ونسق وحدود وإدارة، وبحسب فهمه - أي باتاي- فإن تاريخ الهندسة المعمارية وتاريخ الدولة يصبان في بوتقة واحدة ألا وهي ميلاد أول دولة عصرية التي هي من وجهة نظره بلده فرنسا. (هوية الوحدة الإسلامية) كانت حاضرة من خلال جلسة في فنائنا الخلفي بين لالا روك وماريا لقمان، الأولى فنانة وأستاذة في كلية الفنون الوطنية في لاهور والثانية فنانة وكاتبة ومؤسسة أرت ساوث إيسيا التي تهتم بتاريخ الأفكار في الفن. هذه الهوية، بحسب روك، مأخوذة من التاريخ الأوسع لجنوب آسيا، وهي أيضاً تبحث في العلاقة الطردية بين السياسة والفن. تضمنت برامج لقاء مارس 2015 ندوة بعنوان (ذكريات تخلفنا) نظمته ايرين اناسطاس ورينيه جابري، اللتان شكلتا من فن الأرابيسك نماذج متداخلة من وحي (استشراق إدوارد سعيد) وثنائية التطور والتخلف والماضي والحاضر. تضمن اللقاء رؤية في العمل التركيبي للفنان حسن خان ورؤية أخرى في العمل التركيبي لفنان أدريان فيلار روخاس، كما تضمنت عرضاً أدائياً بعنوان معالم الروح: طبقات الأرض من تصميم أوريل بارتيليمي وجويل لوكوس وفابريس تارو.
مشاركة :