تتعدد أوجه الفعل الثقافي في الإمارات بحيث بات المتابع على موعد دائم مع أكثر من نشاط ثقافي في الوقت نفسه، حيث توجد معارض الكتب والعروض المسرحية والفعاليات التشكيلية والأمسيات..إلخ، زخم متواصل يؤكد أن الإمارات أصبحت بيتاً للثقافة والمثقفين على تنوع جنسياتهم ومشاربهم، في هذا التحقيق سعينا إلى الإضاءة على أوجه هذا الزخم المختلفة من خلال استطلاع آراء مجموعة من المبدعين، الذين تحدثوا عن مشاهداتهم لما يجري على الأرض ورؤيتهم لما يمكن فعله من أجل مزيد من التطوير. قالت الروائية أسماء الزرعوني إن الحراك الثقافي في الإمارات يعود إلى الدعم الحكومي الرسمي، هذا الدعم كان له دوراً أساسياً في إثراء الساحة الثقافية، التي أصبحت تجسد حالة بانورامية متنوعة من الأمسيات على اختلاف تسمياتها الأدبية من شعر وقصة ورواية، وكذلك الأمر بالنسبة للندوات المتخصصة ومعارض الكتب وغاليريات التشكيل والمعارض الكثيرة. لقد أسهم ذلك كله بحسب ما تؤكد الزرعوني في تنمية الفعل الثقافي الذي كان يقوم في الأساس على التخطيط المستمر، وهو الذي جعل منه حراكاً متراكماً أفرز حالة إبداعية في المناشط الثقافية والفنية المختلفة، كما شجع على امتهان الكتابة، فأصبحت الإمارات تشهد حالة نشطة من طباعة الكتب، كما ازدهرت فيها الترجمة، وتنامت فيها كل أشكال متابعة المخطوط ونشره وتوزيعه على نطاق عالمي من خلال معارض الكتب المعروفة في الإمارات وعلى رأسها معرض الشارقة ومعرض أبوظبي، كل ذلك ساعد على ظهور أقلام شابة في مختلف ميادين الإبداع بين الشعر والقصة والرواية، فضلاً عن تفاعل هؤلاء جميعاً مع وسائل الإعلام المختلفة سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو إلكترونية. بدوره ثمن الشاعر خالد الظنحاني الدور الذي تقوم به المؤسسات الحكومية والرسمية في دعم ورعاية الحراك الثقافي والفني في الإمارات، هذا الدعم الذي تحركه وتشرف عليه بل وتؤازره القيادة الرشيدة في الإمارات، بالإضافة إلى ما تقوم به المؤسسات الأهلية من دور مساند في تنمية الساحة الثقافية ورفدها بالأفكار والفعاليات الضرورية. وأكد الظنحاني أن هناك وعياً بالتراث ووعياً بالهوية واهتماماً كبيراً بمتابعة الأفكار الجديدة، لكنّ ذلك لم يمنعه من إبداء وجهة نظر يرى فيها خللاً يمكن إصلاحه وتتعلق بضرورة التنسيق بين المشرفين على هذه النشاطات وبين المبدعين أنفسهم، وضرورة الاطلاع على متطلباتهم، بل وأفكارهم في تنمية الفعل الثقافي، وهذا يعني فتح قنوات اتصال مستمرة بين الطرفين، وأيضاً الانفتاح على المواهب الجديدة والاستماع لها ودراسة أفكارها في هذا المجال. الشاعر حسن النجار يؤكد تصاعد وتيرة الحراك الثقافي في الإمارات، هذا الحراك الذي اندفع في فترة الثمانينات بقوة، وبرزت فيه أسماء كثيرة، وقد استمر هذا الحراك ليأخذ شكلاً جديداً في الفترة الحالية مع اندفاعة أجيال جديدة من المبدعين في التخصصات الأدبية المختلفة من شعر وقصة ورواية، فضلاً عن الحراك الفني الذي تنامى بحضور عدد كبير من الفنانين والتشكيليين والمسرحيين الذين نشطوا بمساعدة وسائل الاتصال المختلفة على الفيس بوك والتويتر وغيرها. ووصف النجار المشهد الثقافي بكونه مشهداً ثرياً ومتنوعاً، وتمتزج فيه أجيال مختلفة يقدمون ما لديهم من إبداعات بمسؤولية كبيرة، ويؤازر هذا النشاط قوة كبيرة مدعومة من القيادة الرشيدة، والمؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية. القاص إبراهيم مبارك يلفت إلى أن الحراك الثقافي الإماراتي فاعل ومتعدد ومتنوع بصورة لافتة، ولا يمثل الحراك اليوم سوى صورة ناصعة للحراك الثقافي العربي، حيث تعوض الحياة الثقافية الإماراتية حالة النكوص والتراجع التي تشهدها العواصم الثقافية العربية التاريخية، خصوصاً مع تردي الحالة السياسية في كل من سوريا، ومصر، والعراق، وغيرها من البلدان التي كانت واجهة ثقافية عربية حتى فترة زمنية قريبة. ويبين أن هذه المكانة التي وصلت إليها الإمارات لم تأتِ بعفوية أو وفق المتغيرات الجارية في المنطقة، إنما جاءت ضمن استراتيجيات نهضوية شملت الحياة الإماراتية بمجملها، تبدت في أشكال عديدة، وعلى رأسها الحياة الثقافية، فحالة الاستقرار والدعم المادي والمعنوي، وتوفر الرؤية المشرقة جعلت من الإمارات بيت لكبار المثقفين العرب. ويشير مبارك إلى أن تحول الإمارات إلى بيت ومرجع الثقافة العربية أضاف إليها مناخاً متنوعاً لا يتوقف عن التوسع والتفاعل عربياً وعالمياً، إذ يجد المتابع أن الجهود الثقافية كبيرة ومتعددة على صعيد المسرح، والأدب، والشعر، والنشر، والكتابة، والسينما، وغيرها من الفروع الثقافية، فلا تكاد الدولة تخرج من فعالية ثقافية كبيرة حتى تدخل في أخرى. ويلفت إلى أن العائد إلى تاريخ الحياة الإماراتية يجد أنها في حالة صعود متواصل منذ سبعينات القرن الماضي حتى اليوم، للحد الذي باتت فيه علامة فارقة في منطقة الشرق الأوسط بأكمله، خصوصاً مع المشاريع الضخمة التي تبنتها الدولة، وسعت فيها إلى خلق تفاعل مباشر بين المنتج الإبداعي والمجتمع، وذلك ضمن رؤية واضحة تسعى لإنتاج مجتمع واعي متنور ومثقف يخدم في النهاية بناء الدولة وقوامها. ويشترك الشاعر أحمد المطروشي مع الهاشمي في حالة النهوض والتطور التي تشهده الساحة الثقافية الإماراتية، إلا أنه يدخل إلى جسم الحراك الثقافي ويقدم فيه رؤيته المباشرة، فيقول: لا شك أن الثقافة تشهد ازدهاراً واضحاً وهناك أجيال جديدة تضخ دماء حية في مختلف أشكال الإبداع، إلا أنني أجد أن الحالة الثقافة بمجملها تنحاز إلى الرواية وتهتف لتشكل عصر الرواية، وهذا ما جعل الكثير من الكتاب الشباب الجدد يتوجهون إلى الرواية من دون دراية أو معرفة. ويضيف: لا يعني هذا أن الحراك التشكيلي ليس فاعلاً، أو الحراك المسرحي، أو غيره، إنما الحالة الثقافية الإماراتية تصب جهدها على الرواية وهذا ينبغي التوقف عنده بصورة ملية، نظراً لما بات يظهر على السطح من روايات سريعة وتجريبية ترسم ذائقة القارئ الإماراتي والعربي. ويتوقف عند ملامح النهوض الثقافي في الدولة بقوله: إن المعايير التي ترسم شكل الفعل الثقافي في الدولة يمكن تحديدها في عدد دور النشر التي تتوالد بصورة سريعة في الدولة، ومعارض الكتب التي باتت منصات ثقافية تعلن منها الإمارات عن المثقف والكاتب الإماراتي، إضافة إلى حجم الجوائز وأهميتها التي جمعت منتجات أدبية وفنية من مختلف دول العالم على مائدة النقد وقدمتها للمتابع العربي. وقال الشاعر طلال سالم إن هناك زخم مشهود للحركة الثقافية في الإمارات من خلال الأنشطة والفعاليات التي تشرف عليها المؤسسات الثقافية المختلفة مثل مؤسسة سلطان بن علي العويس، دائرة الثقافة والإعلام، هيئة السياحة والثقافة في أبوظبي، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وندوة الثقافة والعلوم وغيرها. لكنه وبالرغم من هذا النشاط الكمي الذي نشهده،فإن هناك انحساراً في الحضور الجماهيري، والإقبال على الثقافة، وهنا يجب أن ننظر بعمق في قلب هذه المشكلة، فأين الجمهور من الحركة الثقافية؟ وأين المثقف من هذا الجمهور؟. أعتقد أن الخطوة الأولى والأهم لتلافي هذا الواقع، هي عبر ترسيخ مفهوم الثقافة لدى النشء، وأن تكون البرامج الثقافية ضمن أولويات المؤسسات التعليمية، فتكون الثقافة نمط حياة يكتسبه الجيل الناشئ منذ وقت مبكر، وبالتالي تكون الحركة الثقافية فاعلة ومستمرة وحقيقة، تنتج من دون توقف أجيال متلاحقة من المثقفين في شتى المجالات، إضافة إلى جمهور واع ومتابع لكل الشؤون الثقافية. ونحن أمام فرصة كبيرة اليوم، فلدينا قيادة تعي مسألة الثقافة وتدعمها بكل الإمكانات، لذا يجب أن نستفيد من هذا الدعم ونبذل قصارى جهدنا لتطوير وإنعاش الحياة الثقافية في الإمارات على الدوام. وقال ياسر القرقاوي مدير الفنون الأدائية مدير إدارة المشاريع والفعاليات في هيئة دبي للثقافة والفنون: عندما نتحدث عن الإمارات فإننا نتحدث عن دولة حديثة في منطقة عريقة، تغيرت ديموغرافيتها بشكل كبير بسبب الهجرات التي وفدت إليها ليس من المناطق أو البلدان المجاورة لها فقط بل من شتى أنحاء العالم، وهذا المحور الجوهري الذي أثر ويؤثر في نوعية الحراك الثقافي، وقد أصبح هذا التلاحم الثقافي لأكثر من مئتي جنسية مختلفة بما تحمله من معتقدات وفكر وعادات وتقاليد جزءاً من هذا النسيج والذي نعرفه نحن القائمون على الأجهزة الثقافية في الإمارات ب (تعددية الثقافات)، فالإمارات تنصهر فيها الثقافات المتعددة لتلتقي ثقافة الشرق بالغرب في أجواء من التسامح والاندماج بما يخدم إنسان الإمارات، وأعني هنا المواطن الأصيل مع المقيم والزائر. عندما نتحدث عن المشهد الثقافي في الإمارات يتوجب علينا ألا نحصره في بعض المؤسسات أو الأنشطة، بل أن ندمجها جميعاً وكأنما نستخدم مجموعة مختلفة من المواد في لوحة واحدة أشبه بما يعرف ب الكولاج أو المكس ميديا، وبناء على ذلك نقول إننا في بيئة غنية جداً أدبياً وفنياً وثقافياً، وبها ديناميكية عالية المستوى وبأشكال وألوان زاهية، تعطي للإمارات خصوصية عن جميع الدول المجاورة لها إقليمياً. إن المؤسسات الثقافية والفنية والأدبية من الركائز المهمة في قطاع الثقافة والفنون والآداب، فأغلبها غير ربحي وموجه إلى المجتمع لخدمة وتنمية مبدعيه واحتضان الطاقات الخلاقة. قد تعاني العديد من المؤسسات الثقافية في الإمارات شحاً في التمويل أو الدعم المعنوي، ولكن لا يعني ذلك بأننا في بيئة طاردة، بل إن التغييرات الكبيرة في جميع دول العالم لمواكبة التطور وخاصة الإلكتروني، فرضت على الجميع بأن يستمر في منظومة التغيير للأفضل أو سيؤول إلى الانحسار أو الاندثار. الحديث عن الجوائز الثقافية والفنية والأدبية في الإمارات العربية يطول ويطول، والجدير بالذكر بأننا نتحدث في الإمارات عن جوائز عالمية مثل جائزة حمدان بن محمد الدولية للتصوير الفوتوغرافي، وهي الأغلى في العالم في التصوير الفوتوغرافي، ومن جنس هذه المسابقة الكثير عالمياً في الدولة، ومروراً بالمسابقات المهمة في الوطن العربي مثل جائزة العويس للإبداع، وأمثالها الكثير، إضافة إلى المسابقات المحلية المتميزة شكلاً ومضموناً، لكن ما ينقصنا هو مجرد منصة واحدة لتجمع جميع هذه المبادرات والمسابقات والجوائز لتعرضها في صورة موحدة. وقالت الشاعرة شيخة المطيري إن الحراك الثقافي في الإمارات يندرج في سياق التطور الكبير والمتسارع الذي تشهده الدولة في كافة المجالات التي تنعكس آثارها، بطبيعة الحال، على الجوانب الأخرى بما فيها الثقافة، وهذا ما يترجمه بوضوح عدد المراكز الثقافية الموجودة في الدولة والأنشطة والفعاليات الكبرى التي تنظم على مدار العام. وأكدت المطيري أن المشهد الشعري في الإمارات تطور كثيراً خلال الآونة الأخيرة بالتوازي مع الأجناس الأدبية الأخرى، بفضل وجود فعاليات مهمة مثل برنامجي أمير الشعراء، وشاعر المليون، فضلاً عن مهرجان الشعر العربي والشعبي، وكلها أسهمت، ولا تزال، في تنشيط الواقع الثقافي. ورأت الفنانة التشكيلية سمية السويدي أن الحركة الفنية التشكيلية عرفت تطوراً كبيراً في غضون السنوات الأخيرة، وقد تجلى ذلك بوضح في تزايد أعداد الفنانين الشباب بشكل مطرد، وعدد المعارض المنظمة على مدار الشهر والعام وما تشهده من إقبال جماهيري كبير يعبّر عن تميز تجربة الفنان وذائقة الجمهور الفنية. وأكدت السويدي أن الحراك الفني في الدولة وما يتميز به من نشاط كبير أصبح يحتاج إلى الكثير من التنسيق والتنظيم، ويستدعي وجود مؤسسات فنية مختصة، تقوم بالإشراف على المعارض الفنية وتنسيقها على نحو يسهم في إبراز الأعمال المتميزة التي تعبّر بحق نضج التجربة الفنية وتطورها حتى لا يبقى المجال مفتوحاً أمام الهاوي والمتذوق وغير المتمرس.