الانفتاح والدعوة إلى التحرش! - إبراهيم بن سليمان المطرودي

  • 10/30/2013
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

حين أنظر للمجتمعات، وأنا اللغوي، أراها أشبه شيء بالنصوص اللغوية، فهي تمتلك سياقاً يحرك المفردات، ويحكم وجهتها الدلالية، فيضع زبدة القول فيها، والخلاصة في شأنها على طبق كما يقال من ذهب. حارب التطرف وثقافته كل ما يرجع إلى ثقافة الانفتاح؛ فحارب أولا الحوار بين أطياف المجتمع، وظل يرى في الحوار عدوه الأول، والخطر الأكبر على ثقافته القائمة على التلقين، ثم انتقل محاربا حوار الحضارات والأديان، وبذل جهوده في إفشال هذه المشاريع وإذا كان السياق في النصوص يملك ناصية المفردات، ويأخذ بزمامها؛ فهو في المجتمعات يمسك بالمصطلحات والمفاهيم، ويقود بهما ثقافة المجتمع، ويحدد المعنى الذي تُشكله حركته، ويرسم آفاق أذهان أهله، ومتى وعيت أنا وأنت به، وأدركنا السياق المهيمن في المجتمع، والمتولي تصريف الذهن فيه، استطعنا أن نبني صورة مستقبله وفق معطيات الواقع، وليس حسب أمانينا وتطلعاتنا! ومتى غاب عن الإنسان السياق الذي يعيش فيه تقع منه أخطاء الفهم، وتكثر منه بلايا التصور، فحين يغيب السياق عن الإنسان يخُطئ في وصف واقعه، ويرسب في التنبؤ بمستقبله! فيكون المستقبل عنده قائما على مفهوم الصدفة والحظ!. والقضايا المجتمعية يحكمها السياق الحالي، وليس السياق القديم!؛ إذ لكل مرحلة تأريخية سياق يحكمها؛ كما أن لكل نص لغوي سياقاً يُصرّف مفرداته، ويملأ بالدلالة تراكيبه، وحين تُدرك السياق، وتهتم به، وتلتف إليه، يريك السياق الحالي أن الحال ما كان لها أن تكون على غير ما هي عليه! وهذا ما يجعل من الحكمة، أو الحكمة كلها، أن ينصرف الإنسان إلى الوعي بالسياق، والاهتمام به؛ فهو يجعلك ترى المستقبل رأي العين، وتبصره كأنه بين يديك الآن. ونحن حين نقرأ صفحات مجتمعنا اليوم نرى أن السياق المهيمن سياق انفتاحي، بدأته الدولة، ورأى الشعب فيه مستقبله، ووجد فيه بعد تجربته درب تقدمه، ونافذة تطوره؛ فأيقن أن ليس له طريق سواه؛ لكن هذا الشعب الطيب، ودولته المهتمة به، غفلا عن الدعوات التي تنغص على هذا السياق الجديد، وتبذل قصارى جهدها في تكسير أجنحته قبل إقلاعه!. حين يعرف الإنسان السياق الذي يحدو دولته، ويقود مواطنيها، يعرف المصير الذي تتجه له الدولة في القضايا المثارة، ويُدرك الغاية التي ستنتهي إليها الشعوب في تلك القضايا. وإذا كانت قضية قيادة المرأة للسيارة مسألة، يدور فيها الجدل، ويحتدم فيها النقاش، فهي مسألة عندي يدفع السياق الانفتاحي إلى تأييدها، والسماح بها، والسعي في تنظيم الدولة الحياة عليها؛ لكن تنظيمها خارج إطار الدولة أقلق القضية، وسهّل الافتئات عليها، وأشعر الناس أن دولتهم تقف ضدها، وتحول دون تحقيقها، على حين لو أبصر هؤلاء السياق الحالي للدولة والمجتمع لربما أدركوا أن إقرار هذه القضية أضحى قريبا، ومن الناس غير بعيد! صحيح أن قيادة المرأة للسيارة بعيدا عن الدولة كان عيبا كبيرا في الدعوة، ومدخلا سهلا لمحاربتها من قبل المعارضين لها؛ لكن قيادة المرأة السعودية للسيارة حق لها لا يُبطله خروج بعض الأخوات دون إذن الدولة؛ فالعقاب ينال المخطئ على خطئه، ويدفع هو ثمن ذلك، ولا يُحمّل الحق العام (قيادة المرأة) ثمن ذلك، فذا ظلم لا تقع فيه دولتنا التي شعارها منذ سنوات الانفتاح، والدعوة إليه. وإذا ما نظرنا من خلال السياق نفسه (السياق الانفتاحي لدولتنا) إلى دعوة بعض المتطرفين للتحرش بمن يقدن السيارات أدركنا الفرق الكبير بين الأمرين، وانكشفت لنا الخطورة التي تُشكلها هذه الدعوة؛ فالتحرش فكرة نابية يُحاربها الانفتاح، ويقف ضدها، فالداعي إليها يقف ضد السياق العام، الذي تسير فيه الدولة والشعب، ويُخوّل نفسه القيام مقام الدولة في معاقبة المخطئ، وإيقاع العقوبة عليه؛ فمثل هذا الإنسان يُشاق الدولة مرتين!؛ فهو أحق بالعقوبة من أولئك النسوة. ولا يغيب عن البال أن معارضي قيادة المرأة للسيارة كانوا يتذرعون بأن المرأة السعودية، إذا ما قادت سيارتها، فسوف تتعرض للتحرش والابتزاز؛ فقد كانوا يتكلمون بلسان الشفقة على المرأة، والرحمة بها؛ لكنهم ما أن جاءت هذه الدعوة، المخالفة للنظام!، حتى تبرّعوا هم بهذه المهمة، وتكفلوا هم بالقيام بها، والدعوة إليها، فبان للناس بهذه الفجاجة أنهم يُدافعون عن مواقفهم، ويُحامون عنها، ولم تكن المرأة همهم، ومصلحتها نصب أعينهم!! ومما لا يغيب أيضا عن الدولة وقادتها الكرام أن التذرع بما تتعرض له المرأة السعودية حين قيادتها للسيارة من ابتزاز وتحرش وغيرهما يصب في خانة نقد الدولة في نهاية المطاف؛ فهو وإن بدا في الظاهر حماية للمرأة، وصيانة لها؛ إلا أنه سهم مصمٍ في فؤاد الدولة؛ لأن هؤلاء يرون في أنظمتها عدم القدرة على حفظ حقوق المرأة التي تقود سيارتها، وتقضي عليها حوائجها؛ ودولتنا كما يعلم الجميع لا تفرح بشيء ما تفرح بأمنها وأمانها اللذين ما كانا لولا صرامة الأنظمة، وقوة رجالها في تطبيقها. وليس بخاف علينا جميعا أن جريان الدولة في ميدان الانفتاح خارجيا عبر حوار الأديان والحضارات والثقافات يستلزم أن ينفتح مجتمعنا على حقوق النسوة اللاتي يقدمن إلى بلادنا من الشرق والغرب، فيُسمح لهن ولعلها تكون المرحلة الأولى في قيادة المرأة بقيادة سياراتهن؛ إذ لا معنى للانفتاح ونشر ثقافته؛ ما لم يكن شعب هذه البلاد قادرا على رؤية المخالف، والتعايش معه! وحين اطلعت على دعوة التحرش المتطرفة أدركت أن بعض أفراد الفريق التقليدي بدأ بها ومن قبلُ كان يقوم بذلك في مناسبات شتى يُدشن مرحلة جديدة مع المرأة التي تُخالف توجهاته، وتنزع إلى غير طريقته، مرحلة يصدق عليها بحق أن توسم بالتطرف، ويُوسم صاحبها، والقائم بها، بهذا الوصف؛ إذ شوّه الدين بدعوته، وأساء إلى الدولة والمجتمع بتصرفه. وليس التطرف عندي أن تستصحب السياق القديم، وتتكئ عليه في معارضة السياق الجديد؛ لكن التطرف أن تخرج على السياق المتشكل بغير أدوات اللعبة، فتركب ظهر كل بلية؛ ليبقى ذلكم السياق، الذي أضحى تأريخا فقط، فتجدك تتخذ التحرش، وهدفك الأول والأخير كما هي عادتك مدافعة سياق بدأت هيمنته، وبدا تقبله في المجتمع، إذ لم يكن غرضك أن تُوقف هذه الدعوة، أو تقف في طريق ذلكم المشروع؛ فهدفك هو أن تُشكل سدودا في طريق سياق جديد، يحمل في جعبته دعوات لا ترضاها، ومشاريع لا تتواءم مع ذهنيتك المتشكلة في ظل سياق قديم، بدأ يفقد جمهوره، ويقل في الناس ناصروه، فصرتَ تحت وطأة الخسارة المؤلمة إلى الشغب عليه، والصراخ في وجهه، وكان من أساليبك المزعجة أن تتحرش بأهله، والآخذين بسبيله، مرة بألفاظ نابية، وأخرى بتعدٍ سافر! لقد حارب التطرف وثقافته كل ما يرجع إلى ثقافة الانفتاح؛ فحارب أولا الحوار بين أطياف المجتمع، وظل يرى في الحوار عدوه الأول، والخطر الأكبر على ثقافته القائمة على التلقين، ثم انتقل محاربا حوار الحضارات والأديان، وبذل جهوده في إفشال هذه المشاريع؛ لكنه عاد كالعادة من هذا وذا بخفي حنين، وليست الغرابة في خسرانه؛ فالدولة والمجتمع ضد توجهاته؛ لكن العجب حقا من عدم فطنة ذويه، وغياب قراءتهم للواقع الذي يتشكل، والثقافة التي تتنامى! كان هذا التيار المتطرف في السابق، وليس الممانع فحسب، يتكئ على إرادة اجتماعية يراها سببا وجيها في عدم تطوير المجتمع، والأخذ به في درب التقدم؛ فهو يملك حجة ما قبل عقود من الزمان؛ لكنه اليوم لا يتكئ على شيء؛ فهو يُواجه تيار الانفتاح القائم على دِعامتين؛ الأولى توجهات الدولة التي تسعى في تحديث المجتمع وتطوير بناه، والثانية قناعة المجتمع بهذا الانفتاح وتسرب ثقافته إلى كل بيت في بلادنا العريضة؛ حتى أضحى الانفتاح بُنية من بنى ثقافتنا، وحجراً من الأحجار التي ترصف بها جماهير هذه البلاد طريقها الطويل في سبيل التقدم، والانفكاك من نزعات التطرف التي كان لها دور عظيم في تأجيل كثير من المشاريع، وإبطاء دولاب التحول من مجتمع مستهلك للفكر والثقافة إلى مجتمع ذي صوت متميز، ونغمة خاصة. ومما يكشف عن التطرف الثقافي، ويرفع عنه الغطاء، أن ترى أصحابه يقتطعون النصوص الدينية؛ لتدل على رأيهم، وتنصر حجتهم، وهم لو أوردوا النص بتمامه، والقول بحذافيره، لظهر لهم أن الاستدلال بهذا على المخالف كان محض خطأ قاد إليه جهلهم بسياق النص، ودفعهم إليه تسرعهم في فهمه. تسمع بعض هؤلاء يقولون لك حين تتحدث عن قيادة المرأة للسيارة: قال الله تعالى (وقَرْن في بيوتكن) ويكتفون من الآية بهذا، وتغيب عنهم بقيتها (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرّج الجاهلية الأولى)، وهم فقط لو تأملوا القرار في البيوت والنهي عن التبرج لأدركوا أن احتجاجهم كان في غير محل؛ لأن التبرج لا معنى له إلا أن تكون المرأة المسلمة خارج بيتها! فنهيها عنه دليل أنها تخرج من منزلها، وتُشارك الناس في حياتهم، وهكذا يكون للقرار معنى غير الذي ظنوه؛ لكنهم لم يقصدوا إلى فهم الآية، وإنما قصدوا إلى توظيفها في نصرة رأيهم، والدفاع عنه، وفرق كبير بين القصدين والله المستعان .

مشاركة :