المسلمون والرواية - إبراهيم بن سليمان المطرودي

  • 12/11/2013
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كانت المصيبة الكبرى من وراء استحواذ قيمة الرواية، وهيمنتها على العقل المسلم، أن استشعرت الشريحة العظمى منهم الاستغناء عن التجربة، والاكتفاء برواية تجربة الأسلاف. لقد دفع تعاظم دور الرواية إلى تقلص مساحة التجربة، ونفوق بيئة الأسئلة، سواء في قراءة النص الديني أو في التعرف على الآخرين المخالفين لنا ديناً أو مذهباً، فكان الحديث عن الانفتاح، والدعوة إليه، من غرائب الأمور، وعجائب العصر! لم يقف الإسلام على دحض حجة الإنسان في تقليده، واكتفائه بدور الراوي لأفهام أسلافه، على تأكيد الفصل الحاسم بين رمزية الآباء والصواب، بل سهّل له أمر النظر، وفسح له فيه، فأثابه حين يخطئ، وعذره حين يعجز، كل ذلك قدّمه الإسلام للإنسان؛ ليتحرر من سلطة آبائه التي جعلته يروي عنهم، ويتكئ عليهم، ويسعى للخلاص من جريرة أفعاله بهم! والرواية حين تقوم بهذا الدور، وتضطلع به، تقودنا – لا محالة – إلى إعادة التأريخ في كل مرة من جديد؛ إذ لا مناص لمن استغنى عن التجربة، واكتفى من الأسئلة، والتحف بحكايات الماضين إلا أن يستعيد ماضيه، وما فيه، ويقف في وجه كل من يسعى أن يَخرج من منظومته، ويستعيد قيمته وإنسانيته؛ لأن الإنسان تجربة معاصرة، وليس تأريخاً مروياً. الرواية، والوقوف عندها، ثمرة التقليد، ومحصلة التقديس. وهذان الأمران جاء الدين بمواجهتهما، وتحذير الإنسان منهما، وكل ما يقال فيهما ينطبق على ثمرتهما، ويلزم استصحابه حين الحديث عنها. لقد رضي الإسلام للإنسان أن ينظر ويخطئ، ويفكر ويعثر، ويفتح عينيه وإن لم يبصر؛ لكنه لم يرض له أن يقلد غيره، ويقدس أقواله، ويجعل هذا وذاك حجته، وهذا من أبين البيان على حرية الإنسان، ومسؤوليته عن نفسه! وهو من أوضح القول في أن خطأ الإنسان في تقليده وتقديسه أعظم إثماً وأفدح جرماً من خطئه في رأيه وتفكيره ونظره؛ إن كان للخطأ في هذه إثم وجرم! لم تكن مشكلة تخلّق المسلم بالرواية، وتشربه لها، مقصورة على ضعفه في ميدان الممارسات العقلية، وقلة حيلته في إنتاج المعنى، والاستقلال فيه؛ فلها إلى تلك الصفة أثر كبير في تحويل مساره التأريخي إلى مسار ماضوي؛ إذ تقوم الرواية حين تهيمن على الإنسان بتشكيل ذهنه وفق الماضي، أحداثه وصراعاته وأفكاره؛ فهو لا يحمل الماضي فكرة فقط، بل يحمل من الماضي كل شيء، ولهذا وجدنا المسلمين يتناقلون صراعاتهم كابراً عن كابر، ويأبون إلا أن الناس في كل عصر ومصر ليسوا سوى نسخ مكرورة من أناس عاشوا في أحقاب ذاهبة، وأعصار غابرة؛ مما دفع بالمسلم، راضياً كان أم ساخطاً، أن  يُشارك في تكرار هذه القصة، وتمثيل تلك الأدوار الماضية! تُشكل الرواية سبيلاً مهماً من سبل إعادة الماضي، وطريقاً من طرق رجعة الإنسان إليه، وهذا ما يجعل الإنسان الماضوي شكلاً ومضموناً مغرماً بها، وعاضاً عليها بنواجذه؛ فبها يستعيد الإنسان ماضيه، فكرة كان أم حدثاً، ويتغنّى بأمجاد أسلافه فيهما، وتراه أيضا يُعدد معها عداءات الآخرين له، وصراعاتهم معه، وهذا ما يجعل من رواية التأريخ منفعة للإنسان، ومضرة له! فهو حين تملكه ثقافة الثأر، الْمُغذّاة بالرواية، يصرّ على إعادة ما كان، فيضر نفسه، ويصيب بالضرر غيره، وحين يسلم من هذه الثقافة، وقلما كان ذلك، يمضي متأملاً سبيل الفكاك، وطريق الخلاص؛ مما قادت الظروف الماضين إليه، وأخذت بهم الأحداث صوبه؛ فالتأريخ حين يقرؤه الإنسان يشكل أمرين مختلفين؛ إنه عند أناس بركان، وعند آخرين قليلين منجم! تقف الأديان، ومنها ديننا الإسلامي، مع عالم الفكرة والتجربة، وتُحارب عالم الأشخاص، وكل ما يمت له بصلة. يظهر هذا في دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين حكى لنا القرآن الكريم شيئاً من سيرهم؛ فهم جميعاً، ودون استثناء، يقفون في وجه الإنسان الذي عمدته ما قاله آباؤه، وحجته ما رواه عن أسلافه، ولهذا دعوه إلى ترك الرواية عمن تقدّمه، وحضّوه على البصر بنفسه فيما جاءوا به، ودعوه إليه؛ إنهم يدعونه للتجربة معهم من جديد. هذه القضية من المشترك في دعوات الأنبياء؛ فهم لا يشتركون في الدعوة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فقط، وإنما يشتركون أيضا في مناهضة التقليد، ومحاربة ما ينبثق عنه، وهم في هذا مبلغون عن الله عز وجل الذي لم يقبل من الإنسان أن يجنح لتقليد آبائه، وينساق وراء دعاوى ملئه، من أصحاب العقول، وذوي الألباب! الأديان، وهي دعوات الأنبياء المبلغين عن الله عز وجل ، رفضت الربط الوثيق بين رمزية الآباء والصواب، وجعلت تجربة الإنسان، وإن رأى الضعف في نفسه، والهوان في قدراته، خيراً له من الاتكاء على ملئه، واللجوء إليهم، وهذه صورة واضحة على الحذر من الرواية، والاكتفاء بها في معرفة الصواب، والقرب منه. ولم يقف الإسلام في محاربة عالم الأشخاص عند هذا الحد، لم يقف الإسلام على دحض حجة الإنسان في تقليده، واكتفائه بدور الراوي لأفهام أسلافه، على تأكيد الفصل الحاسم بين رمزية الآباء والصواب، بل سهّل له أمر النظر، وفسح له فيه، فأثابه حين يخطئ، وعذره حين يعجز، كل ذلك قدّمه الإسلام للإنسان؛ ليتحرر من سلطة آبائه التي جعلته يروي عنهم، ويتكئ عليهم، ويسعى للخلاص من جريرة أفعاله بهم! حين أقرأ نصوص مناهضة الدين للتقليد، وأقرن معها نصوص التخفيف على الإنسان، وعدم تكليفه ما لا يطيق فكراً وعملاً، أدرك سعي الأديان الجاد في دفع الإنسان، المؤمن بها، في سبيل صناعة المعنى، وتدشين الفكرة، وأرى أن أعظم ما يمكنني أخذه من ذلك هو إطلاق سراح عقل المسلم، وفك قيوده؛ لتصبح التجربة فإنتاج المعنى عنده آثر من الرواية عن غيره، والحكاية عنه.    لقد حاربت الأديان التقليد، وعذرت المخطئ في فهمه؛ فلم يكن لهذا الثنائي من معنى؛ سوى أن ينطلق المؤمن في ميدان صناعة الفكرة؛ فكل شيء معفو عنه إلا أن يقلد غيره، ويستسلم له، وبهذا الثنائي الحكيم الذي لا يصدر إلا من أحكم الحاكمين، وأعرف العارفين بالإنسان تم دينياً تدشين حرية الإنسان، وإيثار أن يكون الإنسان _ وإن أخطأ - مسؤولاً عن نفسه عن أن يكون الآخرون من الآباء والأسلاف مسؤولين عنه! الأديان تدفع بالإنسان إلى التجربة، وتطلبها منه؛ لأن ذلك هو السبيل إليها، وتحثه على إبداء وجهة نظره، وتفسح له عبر رحمتها به حين يخطئ  آفاقاً لم يعرفها أحد من الناس في ظني! لكن مشكلة الأديان أن الإنسان فصّلها على مقاسه، ووضع حدودها حسب فهمه؛ فأصبحت صورتها تُمثّل الإنسان وفهمه أكثر من تمثيلها من جاءت من عنده، وأُنزلت من لدنه - سبحانه -! الأديان جاءت لتقاوم جبلة راسخة في الإنسان، تحكمه، وتسيطر تماماً على مستقبله، وهي التقليد، ومحاكاة الأولين، والاكتفاء بدور الراوي عنهم، ولا يمكن لمثلي أن يخرج من كثرة ورود الآيات في مسألة التقليد، ومنافحة الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ لهذا الداء العضال في أقوامهم؛ إلا أنه صفة راسخة في الإنسان، وجبلة سائخة في ضميره؛ إذ لا معنى لعناية القرآن بها، وتحذيره منها، ومحاربتها بتأسيس مسؤولية الإنسان عن نفسه؛ إلا أنها صفة ملازمة له، وخلّة حاضرة فيه، لا تفارقه إلا في حالات نادرة، وأحوال شاذة!  لم يقبل الله - تعالى - من المقلدين حجتهم في تقليدهم، ولم يرض من الرواة عن الأسلاف علة روايتهم، وسخر منهم في كتابه في أكثر من موضع (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)؛ وما كان ذلك إلا لأنه ضمن للإنسان ما يجعله يتجاوز عقبة الآبائية، ويقفز عليها، فأعطاه حق النظر، وضمن له حين أعطاه إياه أن يعذره حين يعجز؛ فلم يعد أمام الإنسان مهرب من استعمال عقله، واللجوء إليه، ولم يبق أمامه عذر يعتذر به من عدم سلوكه درب التفكير والنظر! وهكذا لم يعد للناس حجة على الله - تعالى - بعد الرسل الذين بلّغوهم عنه تلك الوصية، وأوصلوا إليهم هذه الرسالة. كل هذا الذي تقدّم يُظهر وقوف الدين في وجه رواة الأفهام، ويكشف عن نكرانه سبيلهم، ويُوضّح سعيه للبُعد بالإنسان عنه، وإيثاره تجربته وخطأه على أن يكون راويا فحسب، وكيف يرضى له أن يكون أجلّ دور يقوم به، وينهض بأعبائه أن يروي عن أسلافه، ويمتهن دور النقل عنهم، وقد حباه خالقه بالعقل، وزوّده به، وغفر له خطأه حين نظره، ولم يُكلّفه بما لا طاقة له به؟! ولعل من تمام الاحتجاج لدعوى المقال، وإزرائه على دور الراوي، والاكتفاء به، وهو ما نعانيه اليوم، أن نتأمل في هذا الحديث العجيب الذي يجمل فيه أبو القاسم – عليه الصلاة والسلام - أدوار الناس أمام النص قائلاً:" إنّ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم؛ كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قَبِلت الماء؛ فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس فشربوا منها، وسقوا، ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تُنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" (رواه البخاري ومسلم). حين قرأت الحديث وجدت فيه ثلاث طوائف؛ الأولى هم صناع المعنى، ومستخلصو الأفكار منه، وشُبّهوا في الحديث بالأرض الطيبة التي قبلت الماء، وأنبتت الكلأ، والشعب الكثير (الأفكار). والفئة الثانية هم حفظة النص ونقلته الذين لا يتدخلون في معناه، ولا يجدون من أنفسهم قدرة على تأويله، فنقلوه بأمانة، وحفظوه بدقة، ووضعوه بين أيدي الطائفة الأولى؛ فشربت منه، وسقت، ورعت. والطائفة الثالثة، وهي شر الطوائف، وليس مرادي هنا التفضيل، لم تصنع من النص (الغيث) فكرة، ولم تأذن للناس غيرها أن يقوموا بهذا الدور؛ لأنها آمنت أن أسلافها وحدهم المخوّلون للقيام بهذا الدور، والنهوض بأعبائه؛ ففقد النص معها دوره، وأضحت كالأرض التي لا تُمسك ماء (النص)، ولا تُنبت كلأ (فكرة). ومع فشو داء التقليد، وعموم دور الراوي في حياتنا، لم نعد نجد - مع عظيم الأسف - سوى الطائفة الثالثة التي لم تقم بحق النص، وحقه إنبات الزرع والكلأ (استنباط الأفكار)، أو حفظه لمن يقوم بهذا الدور، بل اكتفت برواية حقه عن أسلافها، وجمعت إلى هذا أن رأت أن من الجناية عليه، والعبث به، أن يخرج عما عرفته، أو بالأحرى نقلته، فصار النص ماء لا حياة فيه، وصار حامله أرضاً، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ! وتحوّل الدين بفعل وجود هذه الطائفة وحدها تقريباً إلى تأسيس مشروع دكتاتوري، جنت الأمة جريرته، ودفعت ثمنه، وكان آخر حلقاته ما نراه اليوم على أرض الرافدين، ونبصره في ساحات الشام. وإني لأرجو ألا ننزعج، وننكر، ونستغرب، حين يصف غربي أو شرقي ما يجري، ويُحيله إلى الدين نفسه؛ لأن هذا ما نقوله بأفواهنا، وتصدقه روايتنا، وتشهد له أفعالنا، ولا طاقة لشرقي أو غربي أن يفصل بين دين وأقوام يتحدثون عن الانتساب إليه آناء الليل، وأطراف النهار.

مشاركة :