الإقامة خارج الحدود الجغرافية للوطن تجربة مثيرة توفر قدراً لا يستهان به من التجارب الحياتية والخبرات الثرية بالحياة والعالم والناس على اختلاف ثقافاتهم. لست من هواة إطلاق الأحكام السطحية والتعميم على ظواهر الحياة المعاصرة التي نعيشها، ولكني أميل إلى الاعتقاد أن تجربة الهجرة والإقامة خارج حدود الأوطان من الظواهر البشرية القديمة، التي لا تزال تتجدد على نحو ما في حياة الشعوب، وثمة دوافع للهجرة والإقامة في الخارج منها الاقتصادية، وهي الدوافع الأكثر إلحاحاً وأهمية في مسألة الهجرة ومغادرة الأوطان إلى بقاع وأماكن بعيدة ربما بلاد الصقيع والبرد الذي يُجمد المياه في المحيطات والبحار، وبالطبع ليس بوسع أي إنسان أن يدير ظهره لبلاده طالما أصبحت بعيدة وتفصلها جغرافياً آلاف الكيلومترات، والأمر هنا لا يتعلق بالمثالية والصورة النمطية التي يرى الإنسان بها نفسه بقدر ما هي تمثيل وعكس للقيم الأخلاقية والسلوكية التي نشأنا عليها، ونحن بين مجتمع مختلف في العادات والتقاليد والقيم السلوكية الأخلاقية.أن تكون سفيراً لبلدك وأنت بالخارج أمر لا يستهان به لأنه سيشكل في مرحلة ما الصورة الذهنية والانطباع الذي يشكل طريقة نظرة الناس والمجتمع الجديد الذي انتقلت للإقامة به بكامل إرادتك، إذاً كيف أمثل بلدي في الخارج، وكيف أكوّن صورة مصغرة عن مجتمع كبير قُدر لي أن أتركه خلفي؟ كيف أكون سفيرة لبلدي أعكس مستوى المدنيّة والتحضر في المجتمع الذي أتيت منه؟الأمر ليس نزهة فقد تتشكل صورة ذهنية مثقلة بكل الأشكال السلبية عن مجتمعات كاملة في المهجر، وتجد طريقها إلى دوائر التأثير وقنوات الاتصال، إذاً فإن سؤال كيف أمثل بلدي في الخارج إذا كنت مقيماً في بلاد أخرى بصفة دائمة أو موقتة، يبدو سؤالاً وجيهاً وفي غاية الأهمية. الأمر ليس سهلاً كما أسلفت فكثير من الأفعال والتصرفات التي يُظهرها البعض خارج الدولة، تحُدث ردود فعل متباينة، وثمة من يحكمون على شعب كامل بالتخلف والهمجية من تصرفات بعض أفراده.فبعض النساء والرجال يبالغون في المظهر، واكتشاف ذلك ليس بالأمر الصعب بمجرد التردد على الأماكن التي تتواجد فيها الجاليات المقيمة بالخارج سيتكشف الأمر، فتجد بعضهم يلبسون فاخر الثياب والحُلي وبشيء من المبالغة في الزينة يظهرون في الشوارع التي يسير عليها عامة الناس من كل الطبقات والمستويات الاجتماعية.فربما يكون هذا السلوك مدخلاً للسرقات والتعديات في كثير من البلدان، فهنالك من له استعداد للقتل من أجل السرقة. وقد يتصرف البعض تصرفات غير لائقة وغير حضارية ضارباً بقوانين البلد التي يزورها عرض الحائط دون اهتمام واحترام.لا أدري إن كانوا يفعلون ذلك بوعي، غير أنهم بلا شك يعكسون طبيعة مجتمعاتهم، ففي بلاد الغرب يحترم الناس بطبيعتهم القانون والنظم الادارية والمدنية المنظمة للحياة. ولا أجد في نفسي أي صعوبة في احترام قوانين البلاد الغربية ونظم حياتهم، فليس من السمات الحضارية والإنسانية أن نتجاهل القانون ونستخف بالنظم التي يسير عليها جهاز العمل في المرافق الخدمية، لا سيما ذات الطابع الترفيهي والخدمي.يسافر الناس للخارج لأغراض متعددة، منهم من يسافر طلباً للراحة والاستجمام والسياحة والاستمتاع بأجواء السفر إلى مناطق بعيدة، من الناس من قيد حركة سفره بأغراض طبية، علاجية، وثمة آخرين يقصدون الخارج بغرض الدراسة والعلم، وبالنهاية فالنتيجة وفي كل الأحوال تتجدد حاجة الإنسان إلى السفر لاستكمال جوانب من حياته لا أقول إنها لا تتوافر في بلاده بالمطلق، ولكن توفرها بقدر لا يلبي تطلعات وأحلام البعض.في الخارج يحن المرء إلى مراتع صباه، وليس في الأمر عجب فمهما طال السفر لا بد أن نعود يوماً إلى الديار ونحن نحمل تجارب وعلماً وخبرات من مجتمعات أخرى، تشاركنا الكثير من القيم الإنسانية والحضارية وإن تباعدت بيننا المسافات والجغرافيا.فعندما أسافر بغرض الاستقرار أو الإقامة الدائمة في بلاد أخرى، فإنني بلا شك أحمل معي جنسيتي وديني وثقافتي، وعليه سأكون في تمام الحرص على أن أعكس صورة مشرقة وحضارية عن بلادي، فليس في الأمر مجاملة لأنه يتعلق بالسمعة والصيت الحسن والسيرة الطيبة، أو من باب المثل الشائع «يا غريب كن أديب». وبما أن مقالي هذا يتناول بشيء من الاستفاضة والتفاصيل مسألة التمثيل لمجتمعاتنا في الخارج، فسيكون من المناسب الكلام عن أهمية الاقامة خارج حدود الوطن المحددة سلفاً، وغني عن القول إن الإقامة في الخارج تساعد في إكساب الفرد مهارات وخبرات وأنماط معرفيّة جديدة، وتنمية مواهبه وزيادة قدراته على الابتكار والإبداع، ويتيح اكتساب معارف جديدة بزيارة أماكن مختلفة والتعرف على ثقافات وعادات شعوب العالم.في المقابل يكون التمثيل الديبلوماسي إحدى أكثر أشكال التمثيل الشائعة في العالم المعاصر، ولا يتصور وجود بلاد في العالم الآن من دون أن يكون لها حضور ديبلوماسي أو سفارة وبعثة أو حتى ممثل في الخارج لرعاية مصالحها، إذاً التمثيل الديبلوماسي أحد وجوه التمثيل المعروفة في العالم، وينهض بمهام التعاون الدولي والعلاقات الخارجية والاقتصادية والتجارية بين بلدان العالم المختلفة.إلى جانب ذلك، ثمة أشكال من التمثيل الشعبي والمجتمعي بين بلدان العالم، لا سيما ذات العلاقات المتميزة والقديمة أو التاريخية - إن جاز التعبير - تمثلها جمعيات الصداقة بين الشعوب وهي أرقى وجوه وأشكال التعاون والتمثيل في الخارج. عن نفسي ففي كل مرة أحطّ عصا الترحال خارج البلاد، وفي كل مدن العالم التي قُدر لي زيارتها أحرص على تقديم وعكس صورة مشرفة عن بلادي، صورة تليق بمكانتها وأهلها الكرام، أحترم قوانين البلاد التي حللت ضيفة على أراضيها، في الأماكن العامة والمؤسسات ذات الطابع الخاص.وختاماً أتوجه بهذا السؤال للجميع: كيف تصنع الفرق عندما تغادر الوطن؟ * مستشار جودة الحياةTwitter : t_almutairiInstagram : t_almutairii talmutairi@hotmail.com
مشاركة :