هل كان يلزمني أن أرحل حتى أرى الهادية، هادية أخرى؟! بل هل كان يلزمني أن أغلق دفتي كتابي حتى أراها كذلك، هادية أخرى؟! مع أنها لم تبدو لي كتلك الهادية التي رآها كل من رحل عن ذلك الدير وهم يقفون أعلى التلة، أو لأقول الحقيقة فلقد رأيتها في البداية مثلهم، ثم تلاشت تلك البيوت شيئا فشيئا، فأغمضت عيني حتى أزيل ذلك الغبش عنها، فرأيتها بيوت محطمة تملأها النيران، واستحال الحمام يعزف لحنا من نار، بقرب تلك التلة التي بدت شامخة بالمهرة البيضاء وهي تبكي عزيزها، في “زمن الخيول البيضاء”. لتعلم بعدها أن في هذا الزمن، كان اعتزاز العرب بخيولها أكثر، واحسبه رَمَز بالخيل ليخبرك عن صفات هؤلاء العرب من كرم وشهامة ومرؤة ومن تلك الصفات النبيلة التي تتجذر في العرب، وربطها بالبيضاء لتعلم عن ذلك النقاء والمودة التي تسكنهم وتزين زمانهم، متمثلة في مهرة بيضاء. وقد خلتها في بعض الأوقات بطلة للقصة، وفي تارة أخرى أضع فارسها “خالد” بطلا للقصة، ولكني فهمت سبب هذا الأمر، ولعل هذا ما أراد الكاتب إيصاله ليزيل المفهوم المترسب لدينا بأن البطل لا يمكن أن يهزم مرةَ أو يموت. فأخرج لنا الواقع في حقيقته، أن البطل وإن مات فخلفه ألف بطل وألف فارس يسعون لذات الهدف، ويسيرون على ذات الطريق، وجميعهم يكملون بعضهم ويصنعون نجاح واحد. وكذلك أعتقد أن البطل هو شيء آخر تماما، يتكون من تلك الأقسام التي قسم الرواية إليها، (ريح، تراب، بشر)، ليعكس لك وجها آخر هو (الحصان، الإنسان، البيت)، وأسوء ما قد يحدث هو أن تفقد أحدها، إذا ماذا برأيك سيحدث لو فقدت أحدها؟! سأقول لنفسي: لا بأس مادام لدي الباقي! ثم ماذا؟! رأيتها تسلب واحدة تلو الأخرى ولم يستسلم أحدهم أبدا، كنت أرى مقولة خالد جلية في ذلك “كان والِدي رحمه الله يردد دائماً: لا يمكن لأحد أن ينتصِر إلى الأبد، لم يحدث أبداً أن ظلّت أمّة منتصِرة إلى الأبد. ودائماً كنت أفكّر فيما قاله، لكنني اليوم أحِسّ بأن شيئاً آخر يمكن أن يُقال أيضاً وهو أنني لست خائفاً من أن ينتصِروا مرة وننهزم مرة، أو ننتصر مرة وينهزموا مرة، أنا أخاف شيئاً واحداً؛ أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر للأبد لا يمكن أن ينهض ثانية، قل لهم احرصوا على ألا تُهزموا إلى الأبد”. لذلك أعتقد بأن كل شيء يمكن تعويضه إذا ذهب، إلا شيء واحد! شيء لا يمكن تعويضه أبدا، هو الوطن. مثل ذلك الوطن الذي يعيش بقلب “إبراهيم نصرالله”، فلسطين التي يخبرنا عنها في ملحمته الرائعة ” الملهاة الفلسطينية”، والتي تضم عددا من الروايات المختلفة في نسجها الروائي، والمتحدة في هدفها العام وهو تاريخ فلسطين الحديث، لفترة تمتد لـ 225 سنة، تقتطع هذه الرواية منها فترةً هي ما بين أواخر الحكم العثماني، ثم الانتداب البريطاني، وبدء الاحتلال الصهيوني. ثلاثة أجيال لعائلة فلسطينية واحدة “عائلة الحاج محمود”، من قرية “الهادية”، وما هذه القرية إلا فلسطين ذاتها، فـ”هذه بلاد بحجم القلب، لا شيء فيها بعيد ولا شيء فيها غريب”، فحكاية الهادية هي حكاية كل قرية أخرى، لأن ما يحدث هنا يحدث مثله هناك، وإن كانت القرية متخيلة إلا أن قصصها وأحداثها حقيقية، لأن تاريخها قد جمعه المؤلف من أفواههم ذاتها، ونقل البعض الآخر من كُتُبِ من كَتَبَ منهم، في جهد يذكر فيشكر، وفي أسلوب شاعري جذاب، لم يترك فيه مجال حتى لأصغر التفاصيل التي حتما تختلف بين قرية وأخرى، والتي اضفت بعضا من الجمال لتلك النصوص التي أبدع في صياغتها، وتفنن في إخراجها. ولذلك انصح بقراءة هذه الرواية وما يشابهها، دعها تترك داخلك هذه المشاعر، ودعها تحركك وتدفعك للانطلاق بقوة أكبر عبر هذه الحياة، لمعرفة “ذلك السر الذي يجعل أناسا يقيمون زمنا طويلا كهذا في القرية، ولما يحين موعد رحيلهم لا يودعون أحدا، ولا يتركون في البعيد سوى نظراتهم المعلقة في الفضاء كغيمة لا يعرف الإنسان ما في رحمها”.
مشاركة :