إذا كانت نظريات المؤامرة منتعشة مع وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها مع كورونا ستتفتق من كل حدب وصوب.. قيل إن كورونا خدعة صينية، لكن سرعان ما بدت تأثيراتها المدمرة هناك، فقيل بل هي سلاح بيولوجي أمريكي لشن حرب اقتصادية على الصين.. وعندما بدا أن الاقتصاد العالمي كله سيتضرَّر قيل إنها حيلة خبيثة من شركات الأدوية لبيع اللقاح الذي سيتوفر قريباً.. وهلم جرا. لست المشكلة في نظريات المؤامرة، بل في مصادرها غير المهنية واستنادها إما على الخرافة أو الأدهى منها العلوم الزائفة (Pseudoscience) التي تدعي أنها علمية دون توافقها مع المنهج العلمي (افتقادها للتجربة والأدلة وعدم قابليتها للدحض). أما المهنيون من علماء ومختصين فقد ذكروا أنه من المبكر الإلمام بطبيعة فيروس كورونا الجديد، رُغم تشابهه مع فيروس ميرس وسارس المنتميان لعائلة كورونا، ولا يختلف عن الفيروسات التي جاءت من الخفافيش، ويستبعدون فكرة السلاح البيولوجي فهو حتى الآن يهدِّد حياة كبار السن الذين يعانون من مشاكل صحية مزمنة مما يجعله ضعيف الفاعلية كسلاح بيولوجي، رغم أنه وباء ينبغي توخي الحذر منه. الهلع الطبيعي الذي يعتري الناس جراء ظهور وباء جديد لم يتمكن العلم من الإحاطة به بعد، إضافة لاستعجال الناس في الحصول على أجوبة مقنعة حتى لو كانت غير علمية، تمد أصحاب نظرية المؤامرة بقصص شتى تصاغ حسب المزاج الفكري لأصاحبها عبر خيال ضحل وقدرة خارقة في معرفة خوافي الأمور قبل وقوعها، وأثناء تفشيها، وتعديلها بعد انجلائها بذاكرة واهنة سرعان ما يطويها النسيان.. إلا أن الأخطر هنا، هو انتشار الشائعات الصحية والأفكار المغلوطة التي تؤثِّر في قناعة الناس ومن ثم تؤثر في طريقة سلوكياتهم الصحية للتعامل مع انتشار الأوبئة مثل كورونا. إذا كانت الأمور غير واضحة، فبمن يثق الناس أكثر في الحصول على المشورة الطبية؟ للإجابة على هذا السؤال قام موقع Wellcome Global Monitor بإجراء أكبر دراسة بالعالم (2018) حول كيف يفكر ويشعر الناس تجاه العلم والعلماء خلال التحديات الصحية الكبرى، في استطلاع شمل أكثر من مائة وأربعين ألف شخص لأكثر من 140 دولة. الموقع يتبع صندوق ويلكم الخيري المستقل لتمويل الأبحاث وتحسين صحة الإنسان والحيوان (أؤسس عام 1936 في لندن). يغطي الاستطلاع مواضيع مثل ثقة الناس بالعلم والعلماء والمعلومات حول الصحة، ومستويات الفهم والاهتمام بالعلوم الصحية، وفوائد العلم، وتوافق الدين والعلم، والمواقف تجاه اللقاحات ... إلخ وهنا لمحة سريعة لأهم النتائج بما يتصل بالعلم والصحة. قال ما يقرب من ثلاثة أرباع البالغين بالعالم (73 %) أنهم يثقون بالأطباء أو الممرضين، أكثر بكثير من ثقتهم بالمعلومات الواردة من العائلة والأصدقاء (14 %) والمعالجين التقليديين (3 %) والزعماء الدينيين (2 %) والمشاهير (2 %). الثقة بالعلم تزيد في الدول المتقدِّمة، إذ بلغت حوالي 90 % في أجزاء من أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا، وهبطت إلى نحو 65 % في شرق آسيا والشرق الأوسط. ومن النتائج المثيرة أن أكثر من نصف سكان العالم (57 %) لا يعتقدون أنهم يعرفون الكثير أو لا يعرفون البتة شيئاً عن العلوم؛ وهذه النسبة تزيد بالدول النامية. ومن هنا يمكن معرفة أحد أهم مصادر التفكير الخرافي. كما وجد الاستطلاع أن الأشخاص الأقل دخلاً عائلياً والذين يجدون صعوبة في الحصول على رعاية صحية لديهم ثقة أقل بالمستشفيات وأنظمة الرعاية الصحية، سواء في البلدان المرتفعة الدخل أو ذات الدخل المتوسط والمنخفض. هذا قد يعني أن الدخل الخاص بالأسرة مرتبط بقوة أكبر بثقة الأفراد بالمستشفيات والعيادات الصحية مقارنة بالدخل القومي. بالنسبة للقاحات، يؤيِّدها أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم، إذ وافق 79 % من الناس على أن اللقاحات آمنة و84 % يوافقون على أنها فعَّالة. من المثير أن بنغلاديش ورواندا تتمتعان بأقوى ثقة في اللقاحات، إذ يتفق جميع الناس تقريبًا في البلدين على أن اللقاحات آمنة وفعَّالة وأنه من المهم تحصين الأطفال. هنا يأتي أهم عنصر وهو النجاح العملي على أرض الواقع، ليلعب دوراً أساسياً في إقناع الناس بالعلم. ما الذي يجعل الناس تثق بالعلم والعلماء؟ تقول الدراسة في حين أن معظم ما يرتبط إيجابياً بمستوى ثقة الفرد في العلم والعلماء لا يمكن تفسيره من خلال النتائج، إلا أن تعلّم العلوم في المدرسة أو الكلية، والثقة بالمؤسسات الوطنية الرئيسية (مثل الحكومة والجيش والقضاء) هي أقوى العوامل. يقول جيريمي فارار، مدير ويلكوم: «بغض النظر عن روعة فكرتك، أو مدى إثارة معالجتك الجديدة، أو مدى صلابة علمك، يجب أن يقبلها الأشخاص الذين يستفيدون منها.» القبول يستند أساساً على النجاح العملي في تحسين الصحة وتلك حقق فيها العلم تقدماً هائلاً، إلا أن قبول الناس وفهمهم يتأثر أيضاً بعاداتهم وتاريخ أفكارهم وطرق تفكيرهم. وهنا يدخل التفكير الخرافي في مواجهة العلم لحل المشكلات الصحية. ليس فقط الجهل والعلوم الزائفة من يقف ضد العلم، بل أيضاً رغبة البعض في الاطمئنان بتصديق أجوبة قطعية.. يقول كاتب الخيال العلمي إسحاق أسيموف: «الرغبة في التصديق، حتى ضد الأدلة، تغذي جميع العلوم الزائفة..» * نقلا عن "الجزيرة"
مشاركة :