منذ بروز الاتجاه نحو وضع حد أدنى للرواتب وهذه القضية محل جدل اجتماعي اقتصادي، ما بين الداعين لاحترام آلية السوق، والمناشدين بالتدخل الحكومي، وكأن استقراء هذه القضية دون تعصب أشبه بمحاولة حسم الخلاف حول حقيقة مصدر الماء هل هطل من السماء أم تبخر من الأرض؟ ومع أن وضع حد أدنى للأجور ظهر لأول مرة قبل قرابة قرن وربع من الزمان وتحديداً في نيوزلندا عام 1894م، إلا أن هذه الفكرة ظلّت محل نقد كبير ممّا قلل من انتشارها رغم أنها تبدو حلاً سريعاً وعملياً لمشكلة شريحة هامة من المجتمع تعمل في أدنى السلم الوظيفي في بلادهم، أما فيما يتعلق بالنقاش المحلي، فيبدو وكأن الفكرة جديدة كلياً. وبالرغم من أن بعضاً من الدول المتقدمة أخذت بهذه الفكرة خلال العقدين الماضيين مثلاً الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا إلا أن تلك الدول حددت أهدافها بواقعية وبما يتناسب مع أسواقها، وقامت بعمل كبير لإيقاف التضخم، ما جعل دولا مثل بريطانيا على سبيل المثال تبدو سعيدة بتخطى الحد الأدنى للأجور حاجز التضخم للمرة الأولى (أعلى شريحة تصل إلى 9000 ريال تقريباً). على أي حال هذه الدول تختلف جذرياً من حيث ديموغرافية شاغلي الوظائف والباحثين عنها، وأسلوب الحياة ومسؤوليات النفقة وغيرها من العوامل التي من الضروري أخذها بعين الاعتبار، عند مقارنتها بدول خليجية مثل المملكة العربية السعودية، وهو ما يجعل الحلول المعلبة بمثابة القنبلة الموقوتة والتي لا يمكن التنبؤ بموعد انفجارها. في الحياة الغربية مثلاً لا توجد مسؤولية نفقة على الرجال من دون النساء، كما أن تأمين وظائف للمراهقين وسن بدايات الشباب وتنويعها لتشمل الدوام الجزئي والكلي أمر ضروري كون هؤلاء ليس لهم معيل، وهم بحاجة لتأمين مصروفهم طوال فترة الجامعة وما بعدها، ومن هنا جاءت أهمية تحديد هدف واضح من تحديد الأجور بالخصوص لشريحتي 16-17 عاماً 18-20 عاماً. هؤلاء الشبان يعملون بمبالغ زهيدة يمكن التحكم فيها في الدول الغربية لتأمين حاجاتهم الضرورية والتي ليس من بينها أية مسؤوليات مثل الصرف على عوائل أو غيرها، كما أن نظام توظيفهم بالدوام الجزئي يحسب للشركات، وهم في النهاية لا يريدون أكثر من مصروف يد وخبرة تمكنهم من تحسين حياتهم إما بعد التخرج، أو تطوير مهاراتهم الحرفية لاحتراف مهنة ما لا تتطلب شهادات عليا. الاختلاف لا ينتهي هنا، فعلى سبيل المثال في الغرب لا توجد أسر مترابطة، في مقابل ذلك الرأي أكثر تأثيراً من العقائد الاجتماعية ومن هنا لا يوجد عيب في عمل المراهقين في أدنى السلم الوظيفي، وبأجور زهيدة، وليس من المنتظر أن يفكروا في تكوين عائلة قبل 15 أو 20 عاماً أخرى، وبشراكة تامة، ويبقى خيار الأطفال متأخراً عن أية أولويات أخرى. وبالرغم من هذا المناخ الغربي المشجع لفكرة أجور متدنية للشباب ليأخذوا الخبرة ثم ينطلقون في حياتهم المهنية إلا أن هذا النظام لا يزال محل معارضة كبيرة من الاقتصاديين، والسبب هو أن هذا القرار يتسبب في رفع مطرد لسقف التضخم (بالرغم من العمل الكبير لوقفه) وهو ما يضع الدولة سنوياً أمام مأزق رفع ساعة العمل، ومحاصرة الموظفين في وسط سلم الرواتب بخطر التضخم، وفي بريطانياً مثلاً تضاعف الحد الأدنى للرواتب خلال 16 عاماً، ولا تزال المناشدات لرفعها. في السعودية فكرة الحد الأدنى للرواتب لا تزال خارج السياق، فراتب ثلاثة أو أربعة آلاف ريال لمواطن مسؤول عن سكن ومواصلات ومصروفاته وعائلته غير مجدٍ، فضلاً عن النظرة المجتمعية للوظائف اليدوية المتوفرة الآن بفضل تحفيز القطاع الخاص على توفير (عدد) من السعوديين لاستلام (جائزة) الوافد، وهذا الضغط في زاوية العدد يفضي إلى صرف الشركات نظرها عن عوامل مهمة مثل الخبرة والتحصيل العلمي وهو ما يعيق تقدم الشباب أيضاً. على أي حال من المهم الوقوف من وقت لآخر لمراجعة ما إذا كانت هذه التجارب التي تؤثر على نظامنا الاقتصادي ملائمة وفعالة أم من الأفضل البحث عن أفكار جديدة تتناسب مع طبيعة الوظائف وديموغرافية المتقدمين لها واحتياجات وثقافة المجتمع.
مشاركة :