الصحافة المطبوعة تقليد مجتمعي مهم في استمرار الحياة، لا يمكن أن نتخلى عنه لأن قراءة الصحيفة والتفكير في ما يحدث في هذا العالم مسؤولية أخلاقية. مازالت الصحف محظوظة بالقراء الأوفياء، أولئك الذين يستيقظون صباحا وأول شيء يفكرون فيه هو الخروج من المنزل من أجل الصحيفة، “مازال بعضهم ينتظر أن تصله إلى المنزل”، نعم إنه طقس لا يفقد متعته مثل نكهة القهوة الجيدة في آخر العمر. أستطيع أن أتحدث عن أقرب الأمثلة بالنسبة إليّ عمّا تبقى من القراء الأوفياء، من أجل شيء من الثقة والأمل بالنسبة إلى الصحافة المطبوعة. جارتي في السبعين، تنام مبكرا وتستيقظ مبكرا أيضا وتكون أول من يغادر منزلها من الناس غير الملتزمين بالعمل اليومي، بالطبع خروجها من أجل قضاء أمور حياتية، لكن تداعيات قراءة الأخبار تكاد تكون في مقدمها. هذه السيدة تذهب إلى مركز الضاحية القريبة من منزلها وتجمع الصحف المجانية وتشتري صحيفة واحدة فقط وتبدأ بالمطالعة في المقهى. الصحيفة بالنسبة إليها أشبه بطريقة للحديث مع النفس أو الناس على حد سواء، بما أنها تعيش وحيدة بعد أن غادرها أولادها المتزوجون. تحتفي بالصحف أيما احتفاء وتقرأ التفاصيل والتحليلات بشغف ولا ترمي الصحيفة مطلقا بل تعود بها إلى المنزل لتواصل ما أجّلت قراءته. اكتشفت ولعها بعد أن قامت، وبشكل أسبوعي، بتقطيع قصاصات مواد من الجريدة نفسها لتلفت اهتمامي إليها لأنها تعتقد أن هذه المواد الإخبارية والمواعيد الثقافية تهمني. تقدم لي القصاصات في عطلة نهاية الأسبوع وكعادتي أقبلها باهتمام مبالغ فيه وأشكرها، من دون أن أخبرها بأنني سبق أن اطلعت على مضمونها. وفي عطلة نهاية الأسبوع يتكون لديها خزين من الصحف والمجلات والنشرات المجانية وقد امتصت رحيق حروفها بنهم، وفي نهاية الأمر ترميها في سلة المهملات. أستطيع أن أرى ذلك بشكل دائم في الصندوق الموضوع أمام منزلها. هذه السيدة تبعث الأمل باستمرار طباعة الصحف، فهي تعرف طريقة تفكير كتّاب الأعمدة وإلى ماذا يهدفون وتستطيع أن تدافع عن انحياز بعضهم إلى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، كما أنها لا تخفي ازدراءها لما تكتبه سوزان مور في “الغارديان” مثلا، فهي لا ترى في آرائها أي وجه حق في رفض بريكست ومهاجمة عرّابها بوريس. ما يلفت في هذه القارئة للصحافة اليومية أنها لا تمتلك هاتفا ذكيا ولا إنترنت في المنزل! ومازالت ترى القراءة المباشرة للمطبوع الطريق الأمثل للتواصل مع العالم. جاري الآخر أقل صلة بي لكنني أراه في فترات غير متباعدة وهو يفضل قراءة جريدة واحدة ولا يحب أن يغيرها. لأنه يرى في الصحف الشعبية واسعة الانتشار مجرد هراء يخاطب عقول الحمقى من الناس. رجل في عقده السبعيني يعيش مع زوجته، يفضل مغادرة منزله قبل منتصف النهار من أجل هدف واحد ألا يبقى في الدار ويكرر نفس المشاهد أمام عينيه، فاستمرار مشاهدة التلفزيون قد يصيب الإنسان بالبلاهة والغباء، إلا أن قراءة الجريدة تعيد له فتح قنوات تفكيره. هذا الرجل يقتني صحيفته المفضلة يوميا ويشرب قهوته على مهل ويحلل مضمون محتوى الجريدة مع نفسه. اكتشفت طريقة تفكيره مصادفة في المقهى، وهو يطالع صحيفة “التايمز” التي يفضلها باستثناء عددها في عطلة نهاية الأسبوع المبالغ في إصدار ملاحق السياحة والسفر والطعام والحدائق. ولأنه قارئ صحف رائد ومعمر يدرك المحتوى الذي يمر عليه ويحلل بنباهة طبيعة الخطاب الصحافي، شعرت أنه متعاطف مع أفكار ماثيو باريس في قراءاته لما يحدث بالعالم، قال لي إنه واحد من الكتاب النادرين الذين لا يفكرون بعقلية مارغريت تاتشر ولا بخضوع توني بلير، ولا يوجد في صحافتنا البريطانية الكثير منه. غمرني بالثقة كلام هذا القارئ لأن ماثيو باريس كان أصدق من وقف ضد احتلال العراق وأكثر من يفهم واقع الشرق الأوسط في الصحافة البريطانية. يعود هذا الرجل الوفي لقراءة الصحف إلى منزله بعد الظهر وفي يديه صحيفته المفضلة في تقليد يومي، أرى أن الصحيفة نفسها مطالبة بالاحتفاء به لو تسنّت لها معرفة قرائها الأوفياء عن قرب. لدي مثال ثالث يبعث على الأمل بشأن مستقبل الصحف المطبوعة، رجل يجاور مبنى صحيفة “العرب” في منطقة همرسميث، غمرته السعادة عندما عرف أن المبنى القريب من منزله توجد فيه إدارة تحرير صحيفة عربية، ففضل أن يزورنا كلما تسنى له ذلك للحصول على نسخة من صحيفة “ذي آرب ويكلي” وكان يقابل هذا الكرم منا كما يسميه بقصاصات من الصحف البريطانية يقطعها عن أخبار وقصص ومقالات منشورة متعلقة بشؤون العالم العربي، ويقدمها لنا كهدية متواضعة. أليس هذا الرجل واحدا مما تبقى من القراء الأوفياء للصحف، يبعث على الثقة بما نكتبه نحن الصحافيين؟ وبطبيعة الحال قارئ هذه الصحيفة يعرف على الأقل مثالا كي يذكره عن أولئك القراء الأوفياء. صحيح أن الأمثلة التي أعرفها لأناس قد تجاوزوا منتصف العمر، وهو ما قد يضعف فكرتي عن استمرار زخم قراء الصحف الورقية، لكن جوهر الفكرة موجود بوجود قراء للصحف المطبوعة، لا أتحدث عن التوزيع هنا لأنه عملية تسويقية مرتبطة بالاشتراكات وعوامل أخرى، لكنني أرى أن أملا مستمرا بوجود الصحافة المطبوعة كتقليد مجتمعي مهم في استمرار الحياة، لا يمكن أن نتخلى عنها إلا إذا استطعنا التخلي عن وجود المقاهي في حياتنا ومتعة الجلوس في حديقة المنزل في يوم مشمس من أجل قراءة الصحيفة والتفكير في ما يحدث في هذا العالم كمسؤولية أخلاقية تقع على عاتق أي إنسان. ملمس الصحيفة له نكهة القهوة في الزمن الرقمي، لا يمكن لأذكى الأجهزة المحمولة أن تستبدله بمغرياتها. وذلك وحده يبعث على الأمل. * نقلا عن "العرب"
مشاركة :