الأوبئة والكوارث والأمراض.. محفّزات تستنطق الإبداع

  • 3/19/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

من أميز ملامح الإبداع أنه يشكّل انعطافة جميلة لتموجات النفس البشرية الخلاقة والمبدعة؛ فنجده يستحث الخيال ليقدم لنا عملاً أدبياً لافتاً يمنح الدهشة والمتعة للمتلقي ويرفده بجرعة فكرية ربما تقوده لمنابع إلهام جديدة؛ وقد تستفز مكانه ودواخله ليشارك من حوله هذا الجمال. وبرغم قسوة بعض الأحداث والمآسي كالكوارث الطبيعية أو الأوبئة أو الأمراض إلاّ أنها تشكل نبعاً ثرّاً يفجّر قرائح المبدعين من شعراء وروائيين وكُتّاب. وقد شهدت الثقافة العالمية عموماً والعربية خصوصاً العديد من هذه الكوارث التي ألهمت مبدعيها على إنجازات أدبية عديدة؛ لتؤكد مقولة ليوناردو دافنشي، للفن قوة فريدة لنقل هذا النوع من المعرفة إلى الناس في كل مكان. وممن أبدعوا في رصد الوباء بطريقة أدبية مشوقة الكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامي في روايته «الطاعون» وتتحدث الرواية عن الطاعون الذي أصاب مدينة وهران الجزائرية سنة 1940 وتدور أحداثها بالتحديد في الأحياء الأوروبية منها. كانت كل شخصية في الرواية تمثل نمطاً معيناً من التفكير أو لنقل يمثل رسالة في الواقع. ومن الممكن جداً أن يكون الطاعون هو الشر الذي يحدّق في العالم من مرض وحروب وبؤس. بعد تفشي الوباء في المدينة تم إعلان الحجر الصحي على المدينة بأسرها وهذا يعني العزلة المطلقة عن العالم وهنا تصبح وهران ترمز لعزلة الكون ووحدته وكل من فيها يمثلون أنماط الفكر والرسالات التي يحمله كل فرد بشري. الشخصية المحورية الطبيب ريو وهو أكثر الشخوص اتصالاً بالمرض ومن خلال احتاكه بالمرض والناس تروى الحكاية على لسان الراوي ريو «شخصية عملية»، هو إنسان يحاول قدر استطاعته القيام بواجبه وذلك يتطلب منه أن يقاوم عواطفه كإنسان كي يتمكن من ذلك. وأثناء ذلك يتعرف إلى صديقه تارو الذي يتطوع لخدمة المدينة المنكوبة بينما يحاول الكثيرون الهرب منها. شخصية كوتار الذي يمثل تلك الفئة التي تزدهر في زمن الكوارث، تلك الكائنات التي تكون أشبه بالضباع التي تعيش على الجيفة فكل ميتة لهم هي مكسب ووليمة مجانية. وهناك الكثير من الشخصيات الهامشية وهي تمثل تلك الشخصيات التي تقضي جلّ وقتها في التوافه وصغائر الأمور من دون إدراك حقيقي للقيمة الإنسانية للحياة. باختصار.. هي رواية تجسد واقع الوباء في ذلك الوقت بصور إبداعية. وفي ذات السياق تحدث للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته «الحب في زمن الكوليرا» وتدور أحداث الرواية في سفينة نهرية حيث يدعو (فلورنتينو اريثا) حبيبته لرحلة نهرية على سفينة تمتلكها شركته فتوافق، وهناك يقترب منها أكثر وتدرك بأنها تحبه رغم شعورها بأن عمرها (70 عاماً) لا يصلح للحب ولكن هذا ما كان يمنع (فلورنتينو اريثا) من الاستمرار بالأمل والسعي لراحتها فيتخلص من المسافرين الآخرين بخدعة أن السفينة عليها وباء الكوليرا لكي لا تنتهي الرحلة، ويكون الفراق ويثبت أنها خدعة غير موفقة مع الحجر الصحي وتدخل السلطات. وتنتهي الرواية والسفينة تعبر النهر ذهابا وجيئة رافعة علم الوباء الأصفر دون أن ترسو إلا للتزود بوقود فيما تضم عش الحبيبين الذين لا يباليان بكبر عمرها ويقرران أنهما الآن في مرحلة أفضل لوصول مرحلة ما وراء الحب وهي الحب لذات الحب. ولقد منح المؤلف هذه الرواية كل ما له من نبوغ في السرد القصصي وسعة الخيال. ومن الصور الشعرية قصيدة نازك الملائكة «الكوليرا»، صوّرت فيها مشاعرها وأحاسيسها نحو مصر حين داهمها وباء الكوليرا، وحاولت التعبير عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا المرض في الريف المصري. وتقول في قصيدتها: سكَن الليلُ أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ في كل فؤادٍ غليانُ في الكوخِ الساكنِ أحزانُ في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ الموتُ الموتُ الموتْ يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ. ولا ننسى «الغرفة 8» التي قضى فيها الشاعر أمل دنقل آخر أيامه في مستشفى القصر العيني في مصر وقصديته المعروفة والتي جسدت واقع المرض الذي قضى عليه «السرطان» وكانت آخر قصائده ومنها: كان نِقاب الأطباء أبيض لون المعاطفِ أبيض تاج الحكيماتِ أبيض أرديةُ الراهبات الملاءات لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبة المصلِ، كوبُ اللَّبن كل هذا يُشيع بِقلبي الوَهَنْ كلُّ هذا البياضِ يذكرني بالكفن. الأعمال الأدبية في هذا المجال لا حصر لها جسد فيها الأدباء أروع النصوص، كان أغلبهم أبطالاً في الواقع الحقيقي لهذه الأزمات والكوارث والأمراض والأوبيئة عاصروها ووقفوا على معاناتها ليخرجوا لنا عملاً أدبياً جديراً بالاهتمام والمتابعة. نازك الملائكة ألبير كامي أمل دنقل غابرييل ماركيز

مشاركة :