خطورة الجهل بالشريعة وأدواتها

  • 3/21/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

مشكلة المتحدثين الحركيين حول الشريعة ومجالاتها تكمن في جهلهم المطلق؛ فأبواب الفقه وأصوله، والتفسير وشروحه، والحديث ومعانيه وتحديداته تتجاوز عقولهم المحدودة، وآية ذلك أنهم ومنذ أدبياتهم المبكرة لم يعهد عنهم إنتاج مدونات ثقيلة يمكن لطلاب العلم الشرعي الاعتناء بها، أو التعويل عليها، وإنما تعاهدوا التأويلات السياسية، فالنصوص العظيمة تحتاج لفهمها إلى عقول عظيمة، فالإتقان لعلوم القرآن، أو فتوحات الفهم لأحاديث الصحاح، أو التحرير الدقيق لفنون التفسير تتطلب أدوات يفتقرون إليها. حين تقرأ للأئمة الأربعة بعقل وتجريبية الإمام أبو حنيفة، وبتعليل الإمام مالك، وبرسالة الأصول للإمام الشافعي، وبمسائل الإمام أحمد، إنما تقف أمام عقول درست الشريعة من جذورها، وتغذت من أصولها، وسبرت فروعها. فالشريعة ليست مجرد أحكام، وإنما محتواها الأساسي قوامه المقاصد والمصالح. علة التشريع ليست التكليف فحسب، وإنما في جعل الدين للإنسان كما قال الفيلسوف العامري. فالفقه ليس عذاباً للمؤمنين، وإنما تبويب وتأسيس للحكم الديني ضمن مصلحة مرجوة، وتفقيه للمسلمين بالمعنى السديد للتوجيه الإلهي. لعل من أبرز ما شغب عليه بعض المتعالمين اليوم ما اتخذته دول تنتهج الإسلام الوسطي في هذه المنطقة، وعلى رأسها السعودية، وذلك بغية الاحتراز من الأوبئة والكوارث، وقد علق حكماء الإسلام على تلك الإجراءات باعتبارها مما يحقق مقصد الدين وهدفه، إذ جاء ليرفع عن الناس الوزر والأغلال التي كانت عليهم، فالشريعة بجوهرها جاءت لتحقيق مصالح الناس، وفق المقاصد الشرعية المتطوّرة تبعاً لمستجدات شؤون الدنيا. واستعادة مجال مقاصد الشريعة أمر ضروري لفهم معنى تحول الفهم، ودور فقه الحادثات الجديدة في تبيئة الحكم. (ومنه ما عرف بفقه النوازل وللشيخ بكر أبو زيد مؤلف بالعنوان ذاته من مجلدين). قلة من الفقهاء اليوم من يدرك ضرورة تجديد الفقه، والوعي بالأصول، وربما التجديد فيها بعد إدراك مبانيها وتجريب مدى إمكاناتها اليوم. لم يلجأ إمام مثل الشاطبي لطرح مفهوم المقاصد الشرعية إلا بعد عجزٍ شعر به في مجاله، لذلك يكتب وائل حلاق في كتابه المهم «تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام»: «تكمن فرادة الشاطبي كما قال بعض العلماء في أنه عندما لاحظ عجز الفقه عن معالجة التغيير الاجتماعي الاقتصادي في القرن الثامن - الرابع عشر في الأندلس، حاول في نظريته أن يستجيب للحاجات الخاصة بزمنه عبر إظهار كيف يمكن جعل الشرع ملائماً للظروف الاجتماعية الجديدة. في هذا الفصل (استجابة أصول الفقه للمجتمع) سنرى أنه في حين يصح الدفاع عن العلاقة الوثيقة بين نظرية الشاطبي والممارسات الفقهية الاجتماعية السائدة في زمانه، فإن الأسباب التي أدت إلى نظريته لم تنجم أبداً عن رغبة في إنشاء آلية نظرية تقدم المرونة، وإمكان التكيف مع الفقه العملي، بل نشدد على أن نظرية الشاطبي، لما فيها من ابتكارٍ وطابعٍ جديد، استهدفت إعادة ما يعده المؤلف (الشاطبي) فقه الإسلام الحقيقي، الفقه الذي زيفته ممارستان متطرفتان في زمانه، أي مواقف المفتين المتهاونة، وأهم من ذلك المواقف الفقهية المفرطة وغالبية الصوفيين المعاصرين، ممن يوجد في صفوفهم عدد من العلماء الفقهاء».(وائل حلاق. تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام. ص: 214). والشاطبي دافع عن نفسه من تهمة التشدد في كتابه «الاعتصام»، وإنما ما يهمنا منه الأدوات التي نحتها، والآفاق التي فتحها من أجل منح الفقه روح فهمٍ أغنى؛ على صلة بالإنسان، للعلاقة بين الدين والإنسان. جعل الشاطبي البحث أكثر حيوية، وأعطى لبعد الإنسان والدين علاقة جدلية تم استثمارها في بحوث المتخصصين في العلوم الإنسانية لاحقاً. والفقه لم يكن قبل المقاصد مهملاً دور الإنسان، بل يقول الإمام القرافي مثلاً في كتابه الشهير «الفروق»: «لا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك. فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين». لكن المتطرفين والراديكاليين يكرهون العلوم الشرعية بأدواتها التفصيلية، إذ يكتفون بالانطلاق مما يريدونه من الدين لأهدافهم السياسية، بل يكرهون فهم المؤسسة الدينية المقاصدي، لذلك هاجموا بيان مفتي عام السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ الذي وضح للمجتمعات الإسلامية: «إن اتخاذ قرار تعليق العمرة والزيارة مؤقتاً من قواعد الشريعة الإسلامية، ودفع الضرر ودرء المفاسد وتقليلها، وجلب المصالح وغيرها من القواعد الحافظة للنفوس والأبدان، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يورد ممرض على مصح) رواه البخاري ومسلم. ولقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) رواه البخاري ومسلم. فالإجراءات والاحترازات والتدابير الوقائية المتخذة... تهدف لمنع انتشار هذا الوباء والحد من تفشيه». إن من أخطر ما يشيع لدى بعض المتداولين للخطاب الفقهي والمتطفلين عليه أنهم لم يثنوا ركبهم عند أهل العلم، ولم يقرأوا المتون الأصلية، ولم يتبحروا بالفقه وأصوله، والتفسير وشروحه، والحديث وتخريجه، فهذه حالة خصص لها الشيخ الراحل بكر أبو زيد كتابه: «التعالم» وأذكر أن مما استشهد فيه بالكتاب قول ابن دقيق العيد: يقولون هذا عندنا غيرُ جائز ..... فمَنْ أنتمُ حتى يكونَ لكم عِندُ؟! الفكرة باختصار، أن الأحكام الشرعية تؤخذ من مظانّها، والشريعة لها أدواتها، فما كل معتوه من الحركيين المتمردين الجهلة يمكنه الإفتاء بمصائر الأمم. * نقلا عن "الشرق الأوسط"

مشاركة :