العقول المتعالية - حسن المصطفى

  • 6/12/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

"إن الحزم الصارم في الفكر وفي البحث، أي الفكر الحر، حين يصير خاصية من خاصيات الطبع، يضمن سلوكاً متزناً: لأنه يضعف الجشع، يجذب إليه قدراً كبيراً من الطاقة المتاحة، لصالح الطموحات الفكرية، ويكشف في كل التغيرات الفجائية عن منفعتها القليلة، بل عدم منفعتها وعن خطرها". من أراد الحكمة، فله في حديث نيتشه أعلاه زادٌ لطريق موغل في المتاهات، مكتظٌ بالصراخ، وبصيصُ النور فيه قليل، إن لم يكن نادراً!. إن البصيرة التي تقود صاحبها لأن يميز بين خيوط بيت العنكبوت المتشابكة، هي تلك التي ترتكز على "الفكر الحر"، وهو نوع من المراس الذاتي، النابع من دواخل المرء، فلا يمكنك أن تجده معلباً يباع في البقالات، ولا حتى منجزًا في أهم المكتبات الأكاديمية. هو بالتحديد، عملية طويلة من العناء الشخصي، بين الكتب والمصادر، بين العقول والأفهام، وجلسات النقاش والبحث، وتجارب الأفراد والأمم، بين النجاحات والخيبات، بين الوردة والخنجر، بين العطر ورائحة الدم، بين ضحكات الحسناوات وتكشيرات الجنود في الجبهات، بين المشردين وما تساقط من أعقاب سجائر البوهيميين.. هو باختصار، ما تكونه من معارف في حياتك، منذ صرختك الأولى، وحتى آخر يوم في هذا الكون الرحيب. المعرفة الحرة، هي التي يكون ركيزتها البحث العلمي الممتاز ب"الحزم"، أي ذلك الذي لا يبتني على المصالح الشخصية، أو الأهواء، أو المجاملات الاجتماعية والسياسية. هو البحث عن المعرفة، أياً كان مصدرها، وإلى أين قادتك. سواء كانت في قيظ الصحارى، أو ما اخضر من عشب. وهو فيما يعنيه، أن "المعرفة" مقدمة على ما عداها من مصالح، مقدمة على الذاتيات، ما يتطلب كبحا ل"الجشع" كما أشار نيتشه، لأن الجشع سيقودك لما يحقق مصلحتك المادية البحتة والضيقة، أو مصلحة من تنتمي لهم، وهو ما قد يتعارض مع كنه الحقيقة وجوهرها. فالمعرفة بقدر نخبويتها، إلإ أنها ليست ذات نزعة أقلوية. ما سبق، على رغم ما يصاحبه من شدة في البحث، يرافقه ارتقاء للعقل والنفس، في فهمها لما يدور حولها من أحداث، ويقع من مصائب، ويتفجر من براكين، يعمي غبارها الكثيرين من أدعياء المعرفة، وأنصاف المثقفين. العلم، ليس مجرد كاشف عن الحقائق، وقائد إلى السبل التي من خلالها تتطور المجتمعات وتبني حضارتها. هو على المستوى الشخصي، يغنيك عن العناء الذي يقبع الكثير في زنازينه أثناء الأزمات والمشكلات الاجتماعية. ففي الوقت الذي تتقافز فيه الجموع فوق جمر الجهل، لا تعرف إلى أي جهة تهتدي. تجد من لديه حظ من المعرفة، غير آبه ب"التغيرات المفاجئة"، بل تراه يتصرف إزاءها بهدوء وروية، دون انفعال، ودون اندفاع، كونه يبصر ما خفي على الآخرين، ويقرأ ما لا يمكنهم أن يتلمسوه من خلف نظاراتهم المكسورة!. هي البصيرة إذاً، ما تحتاجها الأفراد والمجتمعات. ولأنها تجربة ذاتية أكثر منها جماعية، فإن بصيرة الفرد، هي ما يمكن أن تخلق وعياً جمعياً، يكون رافعة من المنزلقات الكلية. وعيُ من سمع، فوعى، ومن تعلم فتواضع، ومن جلس أمام العلوم، جلسة العاشق أمام حُسن محبوبته. فهل نحسنُ أن نصغي للعلم، إن لم نمنحه قلباً صافياً، وذهناً وقاداً، وإلا فلن نجني منه إلا الرسم الزائل، والغرور البائد، والجهل المقيم، القائد صاحبه إلى قاع القيعان المزدحمة بما تساقط قبلنا من أمم، لم تعرف أن تقرأ من كتاب الحضارة حرفاً، أو تراكم خبرة، أو تأخذ عبرة!.

مشاركة :