يستمر الصراع بين الاتجاهين على نفس التناقض بين منطلقيه. الاتجاه الأول، يعتبر أنصاره أن ما حدث في مصر يومي 30 يونيو و3 يوليو، ثورة شعبية ثانية، مكملة لثورة 25 يناير 2011. والاتجاه الثاني، يزعم أنصاره أن ما حدث ثورة مضادة وانقلاب عسكري على الشرعية الديمقراطية في أول تجربة لها في تاريخ مصر. وفي أول مفارقة تخطر على البال، أن من يقول بالانقلاب العسكري، وحكم العسكر، لم يسبق له أن أطلق هذا التوصيف على ثورة 25 يناير، والتي تدخَّل فيها الجيش، وحكم خلالها، ولفترة، المجلس العسكري. ونعرف جميعاً، أن انتفاضة 25 يناير، ما كان لها أن تسقط رأس النظام (ومن معه)، لولا انحياز الجيش وقيادته لجانب الثورة. ولم تكن الثورة المصرية في هذه الحال استثناءً تاريخياً، فكل الثورات لا يكتب لها النجاح، إلا إذا وقف الجيش (والقوات المسلحة عموماً) بجانب الثورة الشعبية، أو في موقع الحياد على الأقل. سبق للكاتب والمفكر المصري محمد حسنين هيكل أن أطلق في حينه وصفاً دقيقاً على ثورة 25 يناير في كونها نصف ثورة، ونصف انقلاب. وهو يعرف جيداً أن هذا التوصيف ليس إلا صورة فوتوغرافية لحقيقة الوضع، ولا يلغي إطلاقاً جوهرها كثورة شعبية تمر من مدة انتقالية عابرة. الاعتراض الأقوى لدى من يقول بالانقلاب وحكم العسكر، أن تدخل الجيش بعد 30 يونيو/حزيران، كان ضد حكم ديمقراطي شرعي، وعلى غير ما كان عليه الإطاحة بنظام حسني مبارك. قد يبدو هذا الاعتراض مقنعاً إذا ما نظرنا إلى الأمور كما هي على السطح السياسي، لكن سرعان ما تفقد هذه الحجة صلاحيتها السياسية والمنطقية ما أن نغوص قليلاً في التناقضات الواقعية التي كانت ستعطي حتماً النتيجة نفسها. ولعلها هي الأهم في أي تحليل موضوعي لا تحكُمه أغراض سياسية مسبقة. وهنا نضع للتفكير التناقضات التالية: أولاً، لأن الثورة المصرية (كشبيهاتها العربيات) لم تكن لها في المنطلق قيادة مشتركة، لها كلمتُها المسموعة طوعاً لدى مكونات الشعب المصري، وحائزة ثقتها ودعمها، وقادرة على التحكم في صيرورة المرحلة الانتقالية، فلقد كان من المنتظر، على عكس كل التحاليل الرومانسية المعجبة بالعفوية، أن تتخبط في تعددية التناقضات والتقلبات في المصالح والمواقف بين مختلف مكونات الشعب المصري من دون ضوابط جامعة لها. وهذا ما أظهرته تناقضات الثورة في كل القضايا التي مرت بها سواء في الفترة التي حكم فيها المجلس العسكري أو في الفترة التي نال فيها الحكم الإخوان المسلمون. صحيح، أن الإخوان (والحركات الإسلامية عامة) كانت لهم شعبية وقدرات تنظيمية ومالية ودعم خارجي أوسع بما لا يقارن مع إمكانات القوى السياسية الأخرى، إلا أنها أعجز من أن تكون الحركة التي تمثل القاسم المشترك (على غرار الدور التوافقي الذي لعبته الحركة النقابية في تونس، مثلاً) بين كافة القوى الاجتماعية في الإيديولوجية والمصالح والسياسة. ولعل التحليل السوسيو سياسي لانتخابات الرئاسة يبين لنا كيف أن فوز مرسي بالرئاسة ما كان ممكناً لولا نصف الأصوات التي أضيفت له من خارج ناخبي جماعته. مما يفيد أن بقاءه كان مرهوناً باستمرار هذا التوافق المعبر عنه انتخابياً. فضلاً عن ضرورة كسب أقسام أخرى من النصف الآخر الذي لم يصوت له، وهو أيضاً كبير الوزن اجتماعياً وسياسياً. ثانياً: لا تلغي المؤسسات الديمقراطية، حتى تلك المستقرة في البلدان الديمقراطية العريقة، حق الشعب في المطالبة بتغيير الحكم، من خارجها، ما دام المصدر الأساسي في الديمقراطية هو الشعب نفسه. ولنا مثال في حراك عام 68 بفرنسا. في مثل هذه اللحظة، التي تعبر عن أزمة في المؤسسات القائمة، يكون التصرف الديمقراطي الطبيعي هو العودة من جديد إلى الشعب، وإلى الانتخابات من أجل تصويب موطن الخلل. أما ما عانته الثورة المصرية في هذه الحالة بالذات، فلنا عليه العديد من الملاحظات الضاربة، نكتفي منها بما يلي: من جهة، إن ثورة 30 يونيو المطالبة بانتخابات رئاسية سابقة لأوانها، لا تختلف كثيراً عن ثورة 25 يناير لا في الحجم والامتداد ولا في التمثيلية الاجتماعية. ولذلك، فإن إنكار مطلبها، وتجاهل قيمة الحدث، لا يفسره سوى التشبث الأعمى بالحكم. وهو تصرف غير ديمقراطي، وخطأ سياسي جسيم يتحمل أصحابه كافة النتائج المترتبة عنه. ومن جهة ثانية، لم يكن في مصر وقتها مؤسسات برلمانية منتخبة بعد حل مجلس الشعب بحكم قضائي، ولم تبق إلا الغرفة الثانية المنتخبة بأقل من 7% من الناخبين، والتي حُصنت بإعلان دستوري من قبل الرئاسة التي منحتها صلاحيات تشريعية غير دستورية، ومنحت لنفسها بهذا الإعلان سلطات مطلقة أوصلت الأزمة إلى ذروتها. فأية ديمقراطية مؤسساتية يمكن الحديث عنها بعد؟! ثالثاً: غياب القيادة في مستوى تطلعات الثورة الشعبية، أسقط الثورة في تخبطات تراكمت أزمتها بدءاً بعهد المجلس العسكري ووصولاً إلى قمتها في عهدالإخوان. ولعل أبرز انحراف ارتكب في عهد الإخوان، استحواذهم الانفرادي على السلطة وتخليهم عن تعهداتهم التوافقية المعلنة، بدافع الغُرور والنوازع الإقصائية الكامنة في إيديولوجيتهم، وليس بعيداً أن هذا الانفراد الإقصائي كان بإغراءات من أطراف خارجية كانت ترى في حساباتها الجيوبوليتيكية أن الظرف مناسب لإغلاق الدائرة في كل البلدان العربية التي امتد أو سيمتد إليها الحكم الإسلامي، ومصر مركزُها. ولقد نجم عن هذه الروح الاستعلائية والإقصائية تنامي عزلتهم (الإخوان المسلمون) وتصادمهم مع كافة مؤسسات الطبقة الوسطى (قضاة وفنانون وإعلاميون، وغيرهم، فضلاً عن الأزهر والكنيسة القبطية (والأقباط عامة) ومؤسستي الجيش والأمن، والأحزاب والهيئات العلمانية وحركة الشباب... ثم كان افتقادهم لأي مشروع اقتصادي اجتماعي استعجالي يتدارك الفلتان المطلق للمطالب الفئوية التي عمت موجاتها مصر وقتئذ... وكانت النقطة التي أفاضت الكأس، تلك الطريقة الرخوة والمساومة التي عالجت بها الرئاسة مذبحة رمضان الإرهابية لحراس الحدود في سيناء ثم المهرجان المعلوم، بمشاركة السلفية المتطرفة، والذي كان سيورط مصر في حروب إقليمية في سوريا. عند هذه اللحظة بات الأمن القومي من جراء تهديد الإرهاب والتورط في الحروب الإقليمية الخطر الأكبر الذي يستدعي بالضرورة موقفاً حازماً من الجيش. المقدمات السابقة ترسم لنا الإطار العام لتلك التناقضات الجارفة في أعماق المجتمع المصري، والتي لم يكن بالإمكان حبسُها بأي قانون شكلي عن الديمقراطية في مرحلة انتقالية لم تستقر بعد توازناتها الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية والمؤسساتية. فهل الحكم الحالي، حكم عسكري؟ أجيب فوراً، بأنه ينبغي التمييز بين من يعود إليه صناعة القرار السياسي في الدولة، وبين القاعدة الاجتماعية التي تتسع أو تضيق مع تبدل الأحوال، والمكونة أساساً من جميع من لهم مصالح اقتصادية أو سياسية أو إيديولوجية مع الفئة الحاكمة صاحبة القرار السياسي. بين هؤلاء وأولئك علاقات بينية، لكن يمكن أن تكون بينهم أيضاً تناقضات وتفاوتات في المصالح مع هذا المكون أو ذاك تستوجبها مراعاة ديناميات التوازنات المجتمعية العامة وكذا الارتباطات والمصالح الدولية. إن السلطة السياسية ملزمة في قراراتها وخياراتها بمراعاة هذه الكلية جمعاء، وإلا سيكون مآلها الفشل والانهيار. إذا أخذنا هذا التمييز (على بساطته) في تحليل المجتمع المصري، فإني لا أجد للحكم العسكري مدلولاً واقعياً سوى في مرحلة محددة تقتصر على المرحلة الناصرية قبل الهزيمة. ويبين لنا المفكر المصري الراحل أنور عبدالمالك في كتابه المجتمع المصري والجيش، وهو مصدر لا غنى عنه إطلاقاً في تحليل تلك المرحلة، كيف كانت كل أجهزة الدولة - بما فيها القطاع الاقتصادي المؤمم والذي كان القطاع المهيمن، وكذا الحزب الحاكم تحت المسؤولية المباشرة لضباط الجيش، أو لضابط تخلوا بقرار رسمي عن المؤسسة العسكرية وعينوا في وظائف حساسة (كوزارة الخارجية مثلاً). اللوحة التي يقدمها لنا أنور عبدالمالك عن الحكم العسكري في هذه المرحلة، بالوقائع والأسماء والأرقام والتواريخ، والتحليل لتدرج هيمنة الجيش على السلطة وللتحالفات والاختيارات يصعب إيجازها في هذه المقالة، لكن من المفيد التشديد على أنه بالرغم من أن العمود الفقري للحكم كان من ضباط الجيش في كافة فروع أجهزة الدولة، وحتى فيما يمكن حسبانه من مؤسسات المجتمع المدني، وبتحالفات متغيرة بتقدم الثورة، فإن الطابع الفردي لسلطة القرار في شخص الزعامة الكاريزمية لجمال عبدالناصر المدعوم بقاعدة شعبية مصرية وعربية عارمة، صار الأكثر بروزاً في طبيعة النظام السياسي المصري في تلك المرحلة، وخاصة بعد انحلال مجلس قيادة الثورة وتعويضه بمؤسسات تمثيلية منتخبة بقيادة حزب السلطة آنذاك. هيمنة السلطة العسكرية تلك ستبدأ في التراجع والأفول على إثر الهزيمة في حرب 67 والشروخ التي أحدثتها في المؤسسة العسكرية في المحاكمات التي تلتها، ثم في أزمة (15 مايو/أيار 71) التي انتصر فيها السادات وورث بذلك كل الصلاحيات الكبرى التي كانت لمؤسسة الرئاسة في عهد عبدالناصر، ليتجدد الطابع الفردي لنظام الحكم بخيارات استراتيجية أخرى وبتحالفات أخرى كانت في مجملها مناقضة لما كان عليه عهد عبدالناصر، ومن دون كاريزميته. استمر التراجع في نظام الحكم العسكري، وها هو كاتب معاصر جميل مطر يلخص لنا هذا التطور في عهد مبارك: لا مبالغة في القول، بأن النظام الحاكم في مصر اعتمد سياستين لتحقيق استقراره وتأمين نفسه، إحداهما، سياسة عزل الجيش تماما (...) وثانيهما، سياسة تشغيل منظومة الأمن الداخلي بطاقة قصوى، بمعنى أن تتولى تفعيل إدارة شؤون الإدارة والحكم بشرط ألا تقترب من أو تمس مصالح القوات المسلحة...، ثم يستطرد الكاتب في جرد أدوار الحكم والمراقبة للجهاز الأمني في كل المستويات المجتمعية. حكم فردي جديد إذاً، فاقد لأي كاريزما، لكن عموده الفقري الأمن وليس الجيش. ولذلك ليس صدفة أن تندلع شرارة الثورة في يوم احتفال الأمن، وأن يرفض الجيش التدخل كما سبق له أن رفض التدخل ضد انتفاضة الحرامية بتعبير السادات وفي عهده. وستؤدي الثورة إلى تفكك منظومة الأمن وانهيارها، وسيرفع المصريون شعار الشعب والجيش يد وحْدة. من كل ما سبق أريد أن أستخلص ما يلي: أولاً: تعريف النظام الحالي بحكم العسكر ليس سوى شعار سياسي للتحشيد ولا يستند إلى أي تحليل علمي لنظام الحكم الناشئ. ثانياً: لا يمكن إطلاقاً العودة إلى الوراء، إلى مراحل مضت في الستينات وتخطتها لعقود تناقضات النظام نفسه، ثم ما عليه الوضع الدولي اليوم من حساسية تجاه قضايا الديمقراطية، وبالأولى والأحرى ما عليه تطور الوعي الشعبي المصري بعد ثورتين متتاليتين. ثالثاً: ما زالت مصر في مرحلة انتقال لم تستكمل بعد كل مؤسساتها التمثيلية المنتخبة، ولكنها تتميز عن مدة الإخوان بميزتين رئيسيتين: الأولى، أن الرئيس عبدالفتاح السيسي المنتخب يحظى بشعبية كاسحة تمكنه من أن يعالج تناقضات الانتقال وتحدياته بمرونة أوسع، وأن يكون ركيزة الاستقرار والأمن اللذين تحتاجهما مصر، والقاسم المشترك لقيام توافقات مجتمعية جديدة في مستوى حاجات المرحلة. والميزة الثانية، أن الدستور الجديد (وهو أفضل من سابقه) يسد كل الأبواب على إمكانية تجدد الظاهرة الفردية في الحكم، ويقلل من صلاحيات الرئيس، بل ويُخضع استمراريته لسلطة البرلمان. أقف عند هذا الحد، وأترك كل القضايا الأخرى لما ستُفصح عنه الأيام.
مشاركة :