كانت الساعة قد قاربت السادسة مساء، والشمس بدأت تغيب، والحرارة راحت تنخفض قليلاً. على قارعة الرصيف بالقرب من قناة لاندفير في منطقة كرويتبيرغ في العاصمة الألمانية برلين، وقف 5 شبان بعمر المراهقة، يتسامرون ويضحكون. تجمعوا بعضهم في انتظار بعض، قبل أن يكملوا نزهتهم المسائية بالقرب من المياه المتسارعة في القناة المجاورة. لم يكونوا وحدهم هنا. بالقرب منهم مر عداؤون يمارسون الرياضة؛ طفل على دراجته الهوائية مع والديه؛ سيدة تتمشى مع كلبها. خلفهم كانت سيارة للشرطة تقترب ببطء شديد على هذا الطريق الرملي الضيق المخصص أساساً للمشاة وليس للسيارات. لم أعرف ما إذا كان أفراد الشرطة قد شاهدوا مجموعة الشبان المتحلقين بعضهم حول بعض، يدخنون ويضحكون عالياً. كانوا قد تقدموا أمتاراً بعيدة عني. ولكن لو فعلوا، لكان الشبان قد وقعوا في مأزق. فالتنزه «في جماعات» بات ممنوعاً في «زمن كورونا». وحتى بات «مخالفاً للقانون» ما دام الأشخاص ليسوا عائلة واحدة. وكانت الشرطة قد طلبت منهم هوياتهم وأوراقاً تثبت مكان إقامتهم. بات هذا إجبارياً أيضاً. هويتك وورقة تثبت مكان إقامتك، قد يعفيانك من غرامة الشرطة. فهي تثبت أنك والأشخاص الآخرين المرافقين لك، عائلة واحدة، أو العكس. ولو كانوا في ولاية شمال الراين، لكانت الشرطة المتشددة أكثر هناك، قد أجبرتهم على دفع غرامة مالية قدرها 200 يورو لكل منهم. ولكن في برلين، هذه المدينة التي تعشق الفوضى، فإن الشرطة أكثر «تسامحاً» هنا. فمنذ بدء العمل بتطبيق منع التجمعات لأكثر من شخصين الاثنين الماضي، وإقفال المحال غير الضرورية، تسجل الشرطة أكثر من مائة مخالفة ليلياً. ولكنها حتى الآن تكتفي بالإصرار على أصحابها بالإقفال. لم تتوقف الحياة كلياً عن السير في برلين، ولا في المدن الألمانية الأخرى. فحظر التجوال لم يفرض هنا؛ بل درجات أقل منه. يقولون إنه «عزل جماعي». يسمح فيه بالخروج للضرورة وأيضاً «للتنزه وتنشق الهواء وممارسة الرياضة»، ما دامت مسافة المتر ونصف المتر بين الأشخاص محترمة، فإن الشرطة لا تتدخل. ولكن رغم أن الحياة لم تتوقف هنا، فهي تغيرت كثيراً، ورغم أن هذه التغيرات لا تظهر للوهلة الأولى؛ لأن الطرقات ليست خالية والحركة فيها واضحة، ولكنها موجودة وواضحة. أولها مشاهد سيارات الشرطة المتزايدة. لا يمكنك الآن أن تخرج في شارع إلا وتتوقع أن تصادف سيارة أو حتى شاحنة لشرطيين. يبدون كأنهم في كل مكان، رغم النقص الذي يعانون منه؛ فالمئات منهم في برلين يخضعون لحجر صحي احترازي، بعد أن أصيب عدد من زملائهم بفيروس «كورونا». مشاهد أخرى كثيرة باتت مختلفة. مثل ملاعب الأطفال العامة التي باتت مغلقة بالأشرطة الحمراء. والمطاعم والمقاهي التي أقفلت أبوابها وفتحت شبابيكها للطلبات، من دون أن تسمح لك حتى بعبور عتبة المطعم. الصفوف التي تتشكل أمام الصيدليات ومحلات السوبرماركت. والمسافة التي تفصل المصطفين بمتر ونصف متر، كما ينص القانون. المستشارة أنجيلا ميركل كانت واضحة عندما قالت عن هذه الإجراءات الجديدة، إنها «ليست توجيهات؛ بل قوانين» جديدة. رجل الأمن الذي يقف أمام السوبر ماركت يمنع الدخول إذا كان المكان قد تخطى قدرة الاستيعاب المسموح بها. وتحرص الشرطة على التأكد من هذا أيضاً. أحد عناصرها دخل سوبرماركت في منطقة شارلوتنبيرغ في برلين أمس، ليجد المكان مكتظاً، وكان المتسوقون لا يحترمون المسافة المفروضة قانوناً. وبعد أن تبادل الحديث مع المدير، تقرر إقفال المتجر مؤقتاً. وكتبت الشرطة هذه القصة على «تويتر»، لتبعث برسالة أنها لن تتردد في تطبيق القوانين الجديدة. ربما تأمل أن يكون حضورها المتزايد في الطرقات ومقاربتها الجادة لتطبيق «قوانين «كورونا»، رادعاً للسكان أمام مغادرة المنزل من دون سبب وجيه. ففي النهاية، حتى المستشارة تعيش الآن في حجرها المنزلي الاختياري، خوفاً من أن تكون قد التقطت الفيروس من الطبيب الذي أعطاها لقاحاً ضد الالتهاب الرئوي يوم الجمعة الماضي، وتبين لاحقاً أنه هو نفسه مصاب. وما زالت هي تنتظر النتائج النهائية لمعرفة ما إذا كانت أصيبت أم لا، بينما ينتظر شعبها أن تنجلي هذه الغيمة الثقيلة من سمائهم.
مشاركة :