على مدار قرون، أنهكت الحمى الصفراء العديد من الشعوب بكل من القارة الأميركية وإفريقيا وشرقي آسيا، حيث يسجل التاريخ ظهور العديد من موجات هذا المرض الذي تسبب في سقوط أعداد كبيرة من القتلى وامتد لأكثر من مرة ليبلغ الولايات المتحدة الأميركية، خاصة فيلادلفيا سنة 1793 التي فارق الآلاف من سكانها الحياة بسبب هذا المرض خلال فترة لم تتجاوز الثلاثة أشهر. ما بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عرفت الأبحاث حول الحمى الصفراء، التي تراوحت أهم أعراضها بين الصداع والحمى وبطء القلب والإعياء والتقيؤ، تقدما ملحوظا بفضل جهود كل من الباحث الكوبي كارلوس فينلي (Carlos Finlay) والطبيب الأميركي ولتر ريد (Walter Reed)، إذ دحض الرجلان النظريات القديمة والسائدة وأثبتا وقوف نوع من البعوض وراء انتشار هذا المرض. وقد انتظر العالم ثلاثينيات القرن الماضي ليشهد ظهور لقاح مضاد للحمى الصفراء جاء لينقذ حياة الملايين بفضل أبحاث العالم والطبيب الجنوب إفريقي ماكس تيلر (Max Theiler). ولد ماكس تيلر يوم 30 يناير/جانفي 1899 بمدينة بريتوريا الجنوب إفريقية لأب من أصول سويسرية عمل كبيطري بالمنطقة. وقد قضى ماكس تيلر فترة هامة من حياته في التنقل بين المعاهد الجنوب إفريقية والبريطانية قبل أن يلتحق سنة 1922 بقسم الطب الاستوائي بجامعة هارفارد ببوسطن الأميركية. وعام 1930، انضم هذا الطبيب الجنوب إفريقي لفرقة الصحة العالمية التابعة لمنظمة روكفلر (Rockefeller Foundation) التي تحوّل عام 1951 لأحد أهم أعمدتها.الحمى الصفراء منذ تواجده بجامعة هارفارد، تعامل ماكس تيلر مع العديد من الأمراض كالزحار وداء الأميبات وبعض أنواع الحمى. أيضا، أبدى هذا العالم الجنوب إفريقي اهتماما كبيرا بمرض الحمى الصفراء فتابع العديد من الأبحاث السابقة التي أجريت حولها وأثبت رفقة عدد من زملائه وقوف فيروس وراء هذا المرض داحضا بذلك إحدى النظريات القديمة التي ربطت بين الحمى الصفراء والبكتيريا. لاحقا، عكف ماكس تيلر على إيجاد لقاح للحمى الصفراء. وبمختبره، حقن هذا العالم الجنوب الإفريقي عددا من فئران التجارب بالفيروس، واكتشف أن الفيروس المضعّف قادر على منح مناعة لنوع من القردة عرفت بقردة ريسوس. أيضا، اتجه ماكس تيلر رفقة عدد من زملائه بمنظمة روكفلر للحصول على أحد أخطر أنواع الفيروس المسبب للحمى الصفراء بغربي القارة الإفريقية وعمد لزراعته بأجنّة الدجاج بهدف الحصول على نوع مضعّف منه وغير قاتل عند حقنه بأدمغة الفئران.مناعة ضد الحمى وقد انتظر العالم عام 1937 ونحو 100 عملية زراعة للفيروس بأجنة الدجاج للحصول على سلالة مضعفة من الفيروس لقبت بـ 17 دي (17D) وأثبتت قدرتها على منح مناعة ضد الحمى الصفراء دون إلحاق أي ضرر بالبشر. وبفضل ذلك، واصل فريق ماكس تيلر عمله على تطوير لقاح 17D وتمكن من بلوغ هدفه لتباشر بذلك منظمة روكفلر بتجربته بدول جنوب القارة الأميركية. ما بين 1940 و1947، أنتجت مؤسسة روكفلر حوالي 28 مليون جرعة من هذا اللقاح الذي لعب الدور الأهم في إنقاذ حياة كثيرين وإنهاء تصنيف الحمى الصفراء كأحد أبرز الأمراض واسعة الانتشار. وبفضل اكتشافه للقاح الحمى الصفراء كرّم الجنوب إفريقي ماكس تيلر وحصل عام 1951 على جائزة نوبل للطب.
مشاركة :