إن الحياة تؤلف قصصاً يعجز أبرع أهل الفن عن توهُّم مثلها، ولكنها لا تذيع “مؤلفاتها” ولا تعلن عنها، فتبقى “مخطوطة” مخبوءة. هكذا قال الشيخ والأديب علي الطنطاوي في كتابه قصص من الحياة. فتلقي الأيام في الطريق بعض القصص من هنا وهناك، مقطعة الأوصال، ومفرقة الأجزاء، فألصق أوصالها، وجمع أجزاءها بأسلوبه الأدبي البديع، ليجعلك غارقا في بحر البلاغة والبيان. 27 قصة قصيرة، متنوعة الكلمات والأهداف، تجمعها الغاية والهدف النبيل، ولعل تباعد أوقات كتابتها جعلت هنالك تباين في أسلوبها الكتابي، وقد يكون بعضها أقرب للمقالة منه للقصة، وبالتأكيد لا يمنع ذلك من وصول الهدف المنشود منها إليك، وقد خطها الشيخ بأسلوبه البسيط، والبعيد عن التكلف، في 302 صفحة. فتبحر في عالم القصص والأخبار، وبين حديثها صدى من كلام، يقول لك: بأن”الفلك دوار، والزمان سيار، والأيام لا تستقر على حال، ورُب يوم يحمل محض السعادة، يتبعه يوم يحمل الشقاء، ورُب فرح بالولادة، والموت مترقب على بابه، ومسرور بالوصل، والهجر متربص على أعتابه، ولو كشف للناس الغطاء، لضحك باك وبكى ضاحك، واستحالت مآتم أفراحا و أفراح مآتم”، فترى الأم والأب، والأخ والأخت، الغني والفقير، المعلم والطالب، ذاك فرح وهذا حزين، ذاك متألم وهذا كسير، هنا عبرة وهناك حكمة، خطت كلماتها في صفحات قصار، لتناقش وتعالج مشكلات أخلاقية، وأخرى اجتماعية. قصص قد يكون بعضها مما مر عليك أو طاف بك يوما، ولكن للأسلوب وطريقة السرد دور، يجعل لوقع الكلمات عمقا، ولتأثيرها عليك بعدا آخر، يرجو المؤلف منه أن تثير هذه الكلمات في قارئها عاطفة من عواطف الخير، أو فكرة من أفكار الحق. فالنفس البشرية وعلاقاتها مع الغير أعمق من أن يصل إليها قلم الأديب، فلذلك ترى كل أديب يبدعها لوحة فنية بأسلوبه، عله يصف ما بأعماقها! ف”هل رأيت الأفق عند الغروب، والشمس تلونه كل لحظة بلون، تخلق فيه عجائب لم تعرفها الأرض ثم تبيدها وتأتي بغيرها، وتخط فيه خطوطاً سحرية بألوان ما عرفها الفن ثم تمحوها وترسم سواها؟ كذلك النفس البشرية. إنها تبني وتهدم في (الثانية) من الأفكار والعواطف والخواطر والتأملات، ما يعجز أدباء الأرض جميعا عن حبسه في القرطاس. فكيف يصف حياة امتدت أربعين سنة، من عجز عن وصف حياة ثانية واحدة؟ وكيف يصور ألوان النفس الخفية من لم يستطع أن يصور ألوان الأفق الظاهرة؟”
مشاركة :