الكتاب بمضمونه العام سيرة ذاتية يرسم فيها السيد عبدالكريم بوجيري مسيرته في الحياة منذ صباه الى ختام دوره الوظيفي عام 2016، وقد شغل في المجال العملي وظائف قيادية منذ عام 1980 في مجال البنوك والمؤسسات المالية الى آخر وظيفة برتبة الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك البحرين والكويت. الشكل الذي قدم فيه المؤلف سيرته الذاتية أقرب الى الرواية، في مجموعة من القصص، مقارنة بالشكل التقليدي لمؤلفات السيرة الذاتية. عندما اختار عنوان «تأملات في الحياة» فإنه كان يهدف الى جعل قصصه، وهي محطات حياته، مادة تبعث على التفكير والتأمل، وقد نجح في هذا المسعى بجدارة، خاصة وإنه يتمتع بملكة أدبية كونه من الذين يتذوقون الشعر ويكتب أبيات من الشعر كلما سمح له الوقت والجو الملائم، فهو أديب بالفطرة. من خلال رواياته نستشف أن حياة المؤلف مليئة وغنية بما يدعو إلى التأمل، وهو تأمل غير مجرد، تأمل حي مرتبط بالحياة من أجل النجاح في الحياة ومن أجل حياة مرحة وسعيدة، وحياة تعتبر مدرسة لتلقي الدروس على مدى الحياة. باقة التاملات تضم 52 محطة، وهي قصص في الحياة، وكل محطة يرسمها قلم بارع في سرد الروايات بأسلوب أدبي سلس وشيَّق وبشفافية وصراحة، ويخرج من كل محطة بدرس. الرواية ليست مجرد سرد لأحداث وشخصيات وعلاقات وتفاعلات، ولكن استخلاصًا لدرس في الحياة، فلكل رواية مغزى ومن كل مغزى درس وكل درس يحفز العقل ويرشد النفس، وهذا يضفي على الكتاب سمة المرجعية التي تجعل من الكتاب حاجة معرفية متواصلة... كل محطة هي نقطة ارتكاز لتأمل في وجهة مختلفة، بغض النظر عن طبيعة المحطة... تأملات في محطات مختلفة ولكنها مترابطة ومتصلة بعضها ببعض، وهي ترسم خارطة الطريق من مرحلة التحصيل الى مرحلة العمل والعطاء، ومن ثم محطة التفرغ للذات... بعض المحطات، هي بمثابة مواقف استراحة، تعرج الى ساحة العلاقات الخاصة مع الأصدقاء، مثل «تحدي الشعر» و«الانتقام، ومن هي نجمة»، وهذه المحطات تضيف على خارطة الطريق جوًا من المرح الذي يصاحب علاقات الصداقة بين الناس ، وبعض المحطات، فترة البقاء فيها قصيرة، مثل «حادثة الفول السوداني في القاهرة»، وهي تروي تجربة عابرة لها مغزاها ومنها درس في المبدء، وإن المبدأ لا يتغير مع حجم او حدة الأمر او القضية. أما محطة «رحمة بالمحتاجين ولو على مضض» فهي مرتكز للتأمل العميق، تأمل في أعماق نفسٍ مستها لمسة غيَّرت من طبيعتها للحظة خاطفة، ومن ثم مع استعادة الوعي والرجوع الى الطبيعة الأصلية تحاكم النفسُ ذاتها وتعاقب نفسها، إذ ليس من طبعه الغضب، ولكن ركبه غضب طارئ مفاجئ من حيث لا يدري وكأنه يطيع أمرًا رغمًا عنه، غضب اخترق خلجات نفسه الحنونة لتحيله الى خيوط عصبية جامدة، وكأن شيطانًا جاءه على ظهر غيب شل عقله وشوّه نفسيته وعوج سلوكه وأنطق لسانه بما لم يكن من طبعه... هذه المحطة شاهدة على أن طبيعة النفس البشرية غير قابلة للتغير حتى وإن تعرضت لقوة طارئة تخرجها عن دائرة طبيعتها، فهذه النفس تعود دومًا الى طبيعتها (درس عميق للتأمل). المحطات في حياة الإنسان عديدة، ولكن هناك دائمًا تلك المحطة الفاصلة التي يكون لها الدور الحاسم في الوجهة التي يتابع عليها الإنسان طريق حياته، وهذه المحطة هي التي يكتشف الإنسان نفسه بعدها، من خلال طبيعة الأحداث والأشخاص وتداخل العلاقات، والآمال والإحباط، والتناقضات التي تزدحم في هذه المحطة. في حياة المؤلف، إنها المحطة الأطول، وهي رواية «رحلة برية تعزز الثقة»، في هذه الرواية، وهي التجربة الأكثر درامية مقارنة ببقية المحطات، وهي مسار قائم بذاته أكثر من كونه محطة. انها التجربة النوعية التي صقلت شخصية المؤلف، واكتشف بها ومنها نزعته الى تحمل المسؤوليات وقدراته القيادة، وجلده بالصبر أمام المصاعب والمحن، وتخطي الإحباطات بتحويلها الى عناصر ايجابية تحمل فرص النجاح وتحقيق الآمال. تبدأ هذه الرحلة في حلب، من أجل الدراسة الجامعية، وفي فترة حرجة (حرب 1973)، وضرورة العودة الى الوطن، ورحلة العودة هذه لم تكن مجرد رحلة بقدر ما كانت مغامرة غير مرتقبة وقد حملت جميع أنواع المغامرات، القاسية والخطرة والداعية الى الإحباط وحتى اليأس والتي تتطلب الصبر والجلد والإرادة الثابتة والإصرار على بلوغ الهدف. في بداية الرواية وقبل المغامرة غير المرتقبة، كان المؤلف يعيش فصلاً من الحيرة بين حبه وخياره لدراسة الهندسة وبين ما فرضت عليه الجامعة لدراسة علوم الاقتصاد. من وجهة نظره، وبعد أن استطاع أن يحقق نجاحاً مرموقاً في مجال العمل، رأى أن هذا التحول كان خيرًا رغم أنه في حينه لم يكن راضيًا، وأن وا لده قد أقنعه أن يستمر في دراسة الاقتصاد، وفي اعتقاده أن هذا المجال التحصيلي له الفضل في ما وصل اليه من المراتب العالية في حياته العملية.... أعتقد، من وجهة نظري، إن شخصًا بذكائه وقوة ذاكرته وطبيعته الشخصية هي العنصر الأساس في نجاحه، وأن التعليم عامل مساعد، فنجاحه هو نتاج تفاعل كيماوي بين شخصيته ومكتسباته المعرفية والعلمية، فهو ناجح بطبعه بغض النظر عن طبيعة تحصيله العلمي. الحياة تعلمنا أن هناك من الناجحين في الحياة من لا يحمل أية شهادة، وفي المقابل هناك من حملة الشهادات من لم يستطيعوا أن يحققوا نجاحًا يذكر في مجال العمل والحياة. إني بهذا المدخل عن علاقة شخصية المؤلف بتحصيله العلمي قد أضفت على دوري، قراءة في الكتاب، دور المحاور مع المؤلف، وهذا الدور الحواري هو نتاج تاملي لقراءتي لهذه الرواية. يختتم المؤلف جملة محطاته وتجاربه ورحلاته بخطاب الوداع، بعد أن سلم أمانة العمل الى من خلفه في الوظيفة القيادية، لم يكن وداعًا بالمعنى التقليدي، بل ترسيخًا لإرثه وأثره وثقافته في المؤسسة التي عمل لها وأحبها، واعتبر زملاءه في العمل أخوة وأبناء له، مما دعاه أن يضمِّن كلمته الوداعية صفحة من محطات حياته وقائمة من الوصايا التي هي زبدة تجاربه في الحياة والعمل، والوصايا الواردة في الخطاب هي خلاصة الدروس التي يختتم بها كل محطة (رواية)... رغم أن مؤلف الكتاب لا علاقة مباشرة له بسلك التربية والتعليم إلا أن كتابه بمثابة مادة في التربية والتعليم من زاوية بناء الإنسان وصقل شخصيته واكتشافه لنفسه ورسم طريق النجاح أمامه، اضافة الى أن الكتاب يحوي تفاصيل حياتية تعتبر مادة في مجال الانثروبولوجيا الاجتماعية. هذه ميزات تعطي الكتاب صفة شبه مرجعية، بمعنى أنه ليس بالكتاب الذي يقرأ مرة واحدة ويركن على رف في المكتبة، ولكنه من ببن الكتب التي يحتاج المرء الى الرجوع اليه بين حين وآخر... اثنان وخمسون محطة، وهي روايات أدبية معرفية تعليمية، وكل محطة تستحق مقالاً خاصًا بها، والكتاب في مجمله مادة حية لدراسات تحليلية، قليل من كتب السيرة التي تستحق الدراسة ويكون لها صفة المرجعية. إنه كتاب جيد لطلبة الجامعة وللعاملين، وخاصة الذين هم في المراحل الأولية في حياتهم العملية، وطبعًا لا نستثني المثقفين، فهم دائمًا في حاجة الى الاستزادة بالمعرفة وملء فراغات الجهل عندهم.
مشاركة :