قديمًا قال أبو الطَّيِّب المتنبِّي: بِذا قَضَتِ الأَيّامُ ما بَينَ أَهلِها مَصائِبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُوحقًّا ما قال المتنبِّي فإنَّ الشَّيءَ قد يكون شرًّا من وجهٍ، وخيرًا من وجهٍ آخر. وأصلُ هذا المعنى صريحٌ في آيات القرآن الكريم، ومنها قول الله تعالى: «...وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» وقوله أيضًا: «...فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»، وقوله كذلك: «... لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...»؛ وانطلاقًا من هذا فإنَّ كلَّ شيء في الحياة قد تكون له حسناتُه وسيِّئاتُه، وإيجابيَّاتُه وسلبيَّاتُه، ومزاياه وعيوبه.وفيروس «كورونا» ككلِّ خلق الله لا يكون شرًّا محضًا، ولا خيرًا محضًا؛ فإنَّ الخير المحض الَّذي لا شرَّ فيه أو معه إنَّما هو الجنَّة ونعيمها، والشَّرُّ المحض الَّذي لا خير فيه أو معه إنَّما هو النَّار وعذابها، وأمَّا ما نراه في الدُّنيا من خيرٍ أو شرٍّ فبحسب ما غَلبَ عليه من نفع أو ضرٍّ، يقول القرطبيُّ رحمه الله تعالى: «والخير حقيقته ما زاد نفعُه على ضرِّه، والشَّرُّ ما زاد ضرُّه على نفعه، وإنَّ خيرًا لا شرَّ فيه هو الجنَّة، وشرًّا لا خير فيه هو جهنَّم».ونحن حين نتأمَّل حالنا مع فيروس «كورونا» في ظلِّ اتِّفاقنا على وجود الخير والشَّرِّ في الشَّيء الواحد بتعدُّد وجوهه؛ فإنَّنا نلتمس منه إيجابيَّاتِه من باب الثِّقة في الله وبثِّ الأمل والتَّفاؤل في نفوس النَّاس، ومن باب بيان الواجب الشَّرعيّ على الأفراد والمؤسَّسات في هذه الظُّروف، ونلتمس السَّلبيَّات –أيضًا- من استهتار ولا مبالاة ونشر إشاعات تحذيرًا وتخويفًا ووضع الجميع أمام مسئوليَّاتهم.ولكنَّنا لن نقفَ عند كلام أبي الطَّيِّب المتنبِّي بحيث يكون الفيروس مصيبةً عندنا حين نساعد على نشره وتأثيره بالتَّحامق والاستهتار، ويكون فائدةً على قوم آخرين سلكوا سبيل العقل بالالتزام بتعليمات الجهات المتخصِّصة، وسبيل العلم وعكفوا في معاملهم يجرون تجاربهم؛ للوصول إلى أمصال أو لقاحات لعلاجه، وإنَّما سنتجاوز كلام أبي الطَّيِّب وننفذ إلى أعمق منه؛ وذلك حين نقلب شرَّ هذا الفيروس من إصابة قلوب النَّاس بالتَّوتُّر والقلق، وإصابة الجهاز التَّنفُّسيّ بالعدوى، حين نقلب هذا الشَّر إلى خير فنقدِّر المسألة حقَّ قدرها، ونفكِّر في كيفيَّة التَّعامل معه في غير هلعٍ مفرط يدمر الأعصاب والأدوات.وليس من باب الدَّروشة أن أقول إنَّ خير هذا الفيروس أنَّه يذكرنا بعبادات منسيَّة، فالثِّقة في الله في الأزمات، هو الَّذي يبثُّ الأمل في النُّفوس، ويجعلها تباشر أسباب الوقاية والعلاج تعلَّقًا بربِّ الأسباب وتعبُّدًا له. وليس من الدَّروشة أن نؤمن أنَّ التَّضرُّع إلى الله عبوديَّةُ البلاء؛ فقد قال الله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ».وليس من الدَّروشة أن نؤمنَ بأنَّ الدُّعاء بضوابطه وآدابه يردُّ القدر؛ ويكشف الهمَّ، فقد قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ الرَّجلَ ليُحرمُ الرِّزق بالذَّنب يُصيبُه، ولا يَردُّ القدرَ إلا الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العمرِ إلا البرُّ».ولا أنكر أنِّي أحسست بضآلتي وضعفي وهواني حين سمعت من شرفة المنزل جموع النَّاس وقد علت أصواتهم بالدُّعاء لخالقهم، في ضراعة وتذلُّل، فرأيت في هذه الأصوات اعتراف الإنسان بضعفه، على ما عنده من أسباب القوَّة، وإقراره بعجزه، على ما عنده من حيل!ومع أنَّ السَّماء لم تصرِّح باستجابتها لهؤلاء الصَّارخين الزَّاعقين، لكن ستبقى أسلحة الإيمان والدُّعاء والتَّضرع فعَّالة في مواجهة الأزمات، وهذه ثقتنا في الله خالقنا.ولا يقف الخير الكامن في فيروس كورونا عند تجديد إيمان النَّاس بخالقهم، واللُّجوء إليه بالدُّعاء والتَّضرُّع، وإنَّما في تأكيد مفهوم الإيمان الَّذي يظنُّه بعض النّاس محصورًا في هذه المجالات، حتَّى شاع عند كثير من النَّاس أنَّ العلوم نوعان: علوم دين وعلوم دنيا!، ويجعلون للأولى الشَّرف والمزيَّة، ويجعلون الثَّانية دونها في الرُّتبة! والَّذي أحبُّ أن يصحَّ في الأذهان أنَّ طلب العلم فريضة دينيَّة، فهو من الإيمان، وأنَّ هذه الفريضة الدِّينيَّة تشمل العلوم جميعًا بلا تفريق، وأنَّ ما يسمِّيه البعض –ظلمًا وزورا- علوم الدُّنيا من طبٍّ وصيدلة، وفيزياء وكيمياء وغيرها، هي علوم الحياة، لا تستقيم بدونها الحياة ولا الأحياء، وأنَّها لا تقلُّ عن العلوم الدِّينيَّة من قرآن وسنة وتفسير وحديث وغيرها في الرُّتبة.ومن تتبَّع أخبار العلماء السَّابقين، وقرأ تراجمهم عرف منهم علماء جمعوا بين علوم الدِّين والحياة، واسألوا ابن سينا، والكنديّ، وابن رشد، والفارابي، وابن النَّفيس، والخوارزميّ، وجابر بن حيَّان، وغيرهم.إنَّ فيروس كورونا يدعونا إلى أن نراجع بقوَّة مناهج المعرفة عند شباب أوطاننا الَّتي تطلب التَّقدُّم، ولست أعرف كيف يكون التَّقدُّم إذا كانت عقولنا لا تتجاوز مواطن أقدامنا! وكأنِّي بهذا الفيروس يؤكِّد ما بين الدِّين والعلم من ارتباط وثيق، وإن ادَّعى بعض الجهَّال عدم وجوده!إنَّ الأخذ بتوصيات المؤسَّسات العلميَّة المتخصِّصة ليس من التَّفلُّت عن أوامر الله، ولا من معارضة شرعه؛ فهذه الأزمة يلزمها تحصين إيمانيٌّ بما يفرضه الإيمان من سلامة عقيدة، وتعلُّق بالله، ويلزمها كذلك تحصين علميّ يملك أدوات التَّجريب والخبرة المعمليَّة.والعقيدة في الله والإيمان به لا يعني سلبيةً ولا استسلامًا ولا تواكلًا ولا انهزامًا، وإنَّما يعني إيجابيَّة وطموحًا وتوكُّلًا ومغالبةً، يعني أن نشعر بالثِّقة في الله وتوقُّع الأمل والفرج منه، وأن نسعى في مباشرة أسباب الحياة، ومعالجة ما فيها من عطاءٍ في إطار شريعة تحفظ حركة الحياة والأحياء.وتعليم العقيدة للنَّاس بعيدًا عن هذه المشاعر الَّتي تربطهم بخالقهم، وتوجِّه سلوكهم نحو مباشرة أسباب الكون إعمارًا وإصلاحًا ضرب من الأخطاء الإيمانيَّة الَّتي تعود على المتديِّنين بالكسل والبلادة وترك الدُّنيا لمن يقدر على قيادة زمامها، فتتحقَّق لهم بذلك ريادة وسيادة.إنَّ الأمل في الله لا يزال موجودًا، لكنَّ هذا الأمل ليس متاجرة بالشِّعارات، وليس دروشة تحجب النَّاس عن واقعهم وأدواته، وإنَّما هو الأمل المقرون بالعمل، الأمل الَّذي ينفي عن المؤمن الأوهام والخرافات، والعشوائية في التَّصرفات، الأمل الَّذي يقترن باليقين في أنَّ ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيتعامل مع الأزمات بنفس مطمئنة مفكِّرة، فلا يهوِّل، ولا يروِّع، ولا يتَّخذ من الأوهام زادًا لخوفه، وإنَّما يتعامل مع ما يصيب الصِّحة من الآفات بما جاء في الكتاب والسُّنَّة من العمل والأخذ بالأسباب؛ والعسكرة في المعامل، وإجراء التَّجارب، ومناقشة العلماء، ونقل الخبرات. أثق في ربِّي الَّذي عوَّدنا الجميل منه أنَّه من رحم الابتلاءات تخرج الرَّحمات، فادعوا ربَّكم وأنتم موقنون بالإجابة، وخذوا بالأسبابِ العلميَّة والتَّدابير الوقائيَّة؛ فإنَّها من الإيمان.وقانا الله وبلادنا كلَّ مكروه وسوء.
مشاركة :