اليابان هي مختبر العالم لاستخلاص الدروس في مجال السياسات بشأن شيخوخة السكان وتناقص عددهم، ويؤثر التغير الديموغرافي تأثيرا جوهريا في الاقتصاد العالمي، لكن ليس بالطريقة التي كنا نعتقدها يوما من الأيام. فمنذ خمسة عقود فقط، كان بعض المراقبين يتوقعون أن يكون عدد السكان كبيرا جدا وأن يجرد العالم من الموارد بعد وقت قريب، ما يؤدي إلى مجاعة جماعية وانهيار الاقتصاد العالمي ومجموعة من الاضطرابات الأخرى. لكن لم يتحقق سيناريو الهلاك الناجم عن الاكتظاظ السكاني. وعلى عكس ذلك، من المتوقع لأول مرة في التاريخ الحديث أن يتوقف تزايد عدد سكان العالم تقريبا بنهاية هذا القرن، ويعزى ذلك إلى حد كبير إلى انخفاض معدلات الخصوبة العالمية. والتاريخ الفريد لليابان من حيث السكان والخصوبة والهجرة يجعلها نموذجا رائدا لهذا الاتجاه. فأثر شيخوخة السكان وتقلص عددهم يبدو واضحا بالفعل في كل شيء بداية من الأداء الاقتصادي والمالي إلى شكل المدن وأولويات السياسات العامة "مثل الملاءة على المدى الطويل لنظم التقاعد العامة، والرعاية الصحية، والرعاية طويلة الأجل". ونظرا لما للعوامل الديموغرافية من أثر واضح ومتسارع، "اقتصادات الانكماش" فإن اليابان هي حقل التجارب - أي المختبر الذي بدأت دول أخرى تستخلص منه الدروس. وقد ركز عمل صندوق النقد الدولي المتعلق بالاقتصاد الياباني تركيزا شديدا على العوامل الديموغرافية في الأعوام الأخيرة بما يعكس الجدل الحاد الدائر داخل اليابان بشأن أفضل طريقة للاستجابة للضغوط الناجمة عن سرعة شيخوخة السكان وتقلص عددهم. ورغم أن تجربة كل بلد ستكون مختلفة وتستلزم حلولا مختلفة فمن الممكن التعرف على جانب من أهم الانعكاسات الاقتصادية الكلية والمالية من تجربة اليابان في الفترة الأخيرة. اختفاء العمالة أولا، تؤثر شيخوخة السكان وتناقص عددهم تأثيرا مباشرا في القوى العاملة وأسواق العمل في أي بلد، ولا سيما من حيث حجم السكان في سن العمل. وقد ظل التغير الديموغرافي بمنزلة إحدى القوى المحركة لسوق العمل في اليابان منذ عقود عديدة. وفي الفترة بين عامي 1991 و1993 وصلت القوى العاملة المحتملة في اليابان - الأشخاص الذين تراوح أعمارهم بين 15 و64 عاما كنسبة من إجمالي عدد السكان - إلى ذروتها بنسبة أقل قليلا من 70 في المائة. غير أنها سرعان ما انخفضت لتصل إلى أعلى قليلا من 59 في المائة، وهو أدنى مستوى بين دول مجموعة السبعة وأقل بكثير من المستويات المشاهدة في منتصف خمسينيات القرن الماضي. وفي ضوء انخفاض معدلي الخصوبة والوفيات في الوقت الراهن، من المتوقع استمرار تراجع هذه النسبة على المدى المتوسط. ومع ضعف تدفق العمالة الأجنبية، فإن هذا يعني عدم كفاية العمالة اللازمة للحفاظ على مستويات النشاط الاقتصادي الحالية. غير أن مثل هذه النظرة الخطية للمستقبل تعبر عن وضع أسوأ حالا مما يتضح من تجربة اليابان. فاستمرار الطلب على العمالة في اليابان حفز عددا أكبر من النساء وكبار السن "ممن هم خارج الفئة العمرية التقليدية من 15 إلى 64 عاما" على الانضمام إلى القوى العاملة. وستكون الأتمتة والذكاء الاصطناعي والروبوتات "بما في ذلك تكنولوجيا زيادة إنتاجية العامل" عوامل بالغة الأهمية "اقتصادات الانكماش" أيضا في استجابة اليابان لمظاهر تقدم السكان في العمر وانخفاض عددهم أيضا وانعكاسات ذلك على الإنتاجية والنمو الاقتصادي طويل الأجل، وتشير بحوث الصندوق إلى أن اليابان مثال جيد في هذا الشأن. أولا، العمالة الأكبر سنا قادرة على تحقيق مستويات إنتاجية أعلى بسبب تراكم الخبرة العملية لديهم، بينما يتمتع العمال الأصغر سنا بصحة أفضل، وسرعة معالجة التغيرات التكنولوجية السريعة والقدرة على التكيف معها، وقدر أكبر من ريادة الأعمال، ما يؤدي إلى مزيد من الابتكار. وتشير هاتان القوتان المتضادتان إلى وجود علاقة على شكل حرف ( U ) معكوسة بين السن والإنتاجية، حيث تكون الإنتاجية عند أدنى مستوياتها في مرحلتي بداية ونهاية الحياة المهنية. ثانيا، من المرجح أن تؤدي الشيخوخة إلى زيادة الطلب النسبي على الخدمات "كالرعاية الصحية"، ما يتسبب في حدوث تحول قطاعي نحو قطاع الخدمات - الأكثر كثافة في استخدام العمالة- والأقل إنتاجية. ثالثا، يمكن أن يؤثر حجم السكان أو كثافتهم أيضا في الإنتاجية "أي ازدياد الإنتاجية مع زيادة حجم وكثافة السكان في سن العمل"، وتشير زيادة عدد المسنين وانخفاض عدد السكان إلى عدد أكبر نسبيا من المتقاعدين... يتبع.
مشاركة :