كان من المقدر لتطورات العصر الحديث في الصين، التي بدأت عام 1949 بإنشاء دولة الرعاية من المهد إلى اللحد، أن يأتي عليها وقت تتجاوز فيه طلبات السكان قدرة الجمهورية الشعبية على تلبيتها، وربما حان هذا الوقت الآن. لقد ازدهرت الصين على مدى عقود، حققت فيها معدلات نمو كادت تقترب من مستوى الرقمين منذ أن بدأ دينج شياو بينج تجربته في الأسواق المحلية، وأطلق عنان بعض قطاعات الاقتصاد، محررا إياها من سيطرة الدولة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وكان التقدم السريع للصين من بلد نام لتتبوأ المرتبة الثانية بين أكبر اقتصادات العالم قد ولد أعدادا هائلة من أبناء الطبقة المتوسطة ومئات من أصحاب المليارات. لكن هذا النمو كان متفاوتا؛ إذ خلف وراءه فجوات شاسعة بين الأغنياء والفقراء، وبين المدن الساحلية المزدهرة والمناطق الداخلية المهملة التي يغلب عليها الطابع الريفي. وكانت الصين تسعى طوال الوقت إلى تطويع خدمات، مثل: معاشات التقاعد، والرعاية الصحية؛ لتلبي الطلبات في اقتصاد تدفعه قوى السوق بصورة متزايدة، وقد حققت نتائج متفاوتة. واليوم، بينما تبذل حكومة الرئيس شي جين بينج جهودا مضنية للتوفيق بين تطلعات الطبقة المتوسطة الآخذة في النمو واحتياجات الملايين الذين لا يزالون يعانون الفقر، يجب عليها أيضا أن تواجه التحديات الناتجة عن تباطؤ وتيرة النمو. وفي كلمة ألقاها شي في تشرين الأول (أكتوبر) 2017 أمام المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي قبل فترة رئاسته الثانية للحكومة، التي تمتد خمس سنوات، أقر بأن الحكومة لم تحقق ما كان الشعب يتوقعه منها بشكل أساس. وبدأ يوضح مجددا كيف سيعمل الحزب الشيوعي على تلبية احتياجات مواطنيه في العقود المقبلة. وذكر شي أمام آلاف من مندوبي الحزب الذين توافدوا إلى قاعة الشعب الكبرى في مدينة بيجين، بينما كان مئات الملايين يشاهدون البث الوطني عبر التلفاز: "بينما دخلت الاشتراكية ذات الخصائص الصينية حقبة جديدة، فإن المتناقضات الرئيسة التي تواجه المجتمع الصيني قد تغيرت"، وأضاف قوله "إن ما نواجهه الآن هو التضارب بين عدم توازن التنمية وعدم كفايتها، وبين احتياجات الشعب المتزايدة لحياة أفضل". وقال إن هذه الاحتياجات "تتزايد على نطاق واسع". وبينما كان شي يستعرض إنجازات حكومته، أعرب عن فخره بأن الصين انتشلت 60 مليون نسمة من الفقر في السنوات الخمس السابقة، لكنه أشار كذلك إلى الحاجة إلى القيام بمزيد من العمل، ودعا إلى القضاء على الفقر في المناطق الريفية بحلول عام 2020، وتلك بالطبع مهمة تتطلب عملا شاقا من خلال "الاعتماد على الجهود المشتركة بين الحكومة والمجتمع والسوق". ويقول بعض الأكاديميين والمراقبين السياسيين، إنه بينما سعى الرؤساء الآخرون الذين تولوا الرئاسة بعد دينج إلى إطلاق عنان قوى السوق لدعم النمو والحد من الفقر، أقدم شي على تغيير الاتجاه، مؤكدا دور الحزب والدولة. وكتب إيفان فيجينبوم، الباحث المتخصص في شؤون الصين، في دراسة أعدها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 وقدمها إلى "مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في واشنطن"، يقول عنه "إنه يفضل المحيط العام، وتوسيع نطاق عمله الاجتماعي والسياسي والاقتصادي"، وأضاف أن "الحزب، ببساطة شديدة، لم يتكيف تماما في العقود الأخيرة مع الأوضاع المتغيرة لمجتمع يتقدم في السن، وفي ظل تنامي عدم تكافؤ الفرص الاقتصادية". وعندما تراجعت أسواق الأسهم في 2015، سارعت الحكومة إلى فرض مجموعة من الضوابط من جديد على حركة خروج رؤوس الأموال من البلاد، وعلى حرية التداول في السوق. كذلك عمد شي إلى توسيع دور أعضاء الحزب في مجالس إدارة الشركات الخاصة والعامة على حد سواء. وفي الوقت نفسه، أعادت حكومته فتح تسهيلات الائتمان أمام المؤسسات المملوكة للدولة لحفز النمو الاقتصادي؛ حيث فضلتها على شركات القطاع الخاص المبتدئة. وفي محاولة للقضاء على المخاطر المالية من الدين الجامح، وهي واحدة من "المعارك" الثلاث الرئيسة التي ذكرها شي، وضعت قيودا على إقراض الشركات، وأثرت في الشركات الخاصة بصورة غير تناسبية. وكانت الحكومة في الوقت نفسه تدفع بكل قوتها المؤسسات المملوكة للدولة المستفيدة من القروض، التي أصبحت متاحة نتيجة تخفيض الاحتياطيات الإلزامية في المصارف أخيرا. ومع هذا، يتبين من التجربة أن إقراض القطاع العام وسيلة أقل كفاءة في حفز الاقتصاد، ويمكن بالفعل أن يضاف إلى تراكم القروض المتعثرة. وتحت قيادة ماو تسي تونج، الذي ظل رئيسا للحزب الشيوعي حتى وفاته في 1976 أكدت الصين أهمية بناء قوتها الوطنية من خلال الاستثمار في الصناعات الثقيلة، وظل العاملون يكدحون جنبا إلى جنب مقابل مستويات دخل متماثلة عموما لكنها منخفضة. وكان معظم سكان الريف مقسمين بين الوحدات التعاونية الزراعية أو البلديات. وكانت المؤسسات والأجهزة الحكومية معا توفر لهم الأمان، وتمنحهم مزايا وظيفية مدى الحياة، منها: السكن، والتعليم، والرعاية الصحية، ومعاشات التقاعد، ومستويات الدخل الأساسية، حتى المساعدة على تكاليف الجنازة عند الوفاة. ومع تطلع البلاد إلى ما وراء حدودها بعد وفاة ماو، شرعت الصين في إجراء إصلاحات اقتصادية انعكاسا لآليات السوق، لكن أطلق عليها فيما بعد "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، وبينما استخدم تونج نظم الحوافز لإذكاء الاقتصاد -كتعميم خطة على المستوى الوطني في مطلع ثمانينيات القرن الـ20 تسمح للمزارعين بجني منافع إنتاجهم الزائد مثلا- بدأ كذلك يعيد تشكيل دولة الرعاية؛ لتلبي احتياجات العاملين في القطاع الخاص. وفي البداية، كان عدد من غامروا وخرجوا لبدء مشاريع خاصة بهم محدودا؛ بسبب عدم تأكدهم من أنهم يقدمون على الخطوة الصحيحة، واضطرارهم إلى إضاعة المنافع المرتبطة بالعمل الحكومي. واتخذ عددا قليلا من الإجراءات التي أسهمت في تشجيع الأفراد على اكتساب مزيد من الاستقلالية، بما فيها إصلاحات عقود العمل، والأسعار، وبدائل الوحدات التعاونية، التي نقلت المسؤولية عن الأرباح والخسائر إلى المديرين. وما إن بدأ البعض يحقق الثراء، حتى قفز آخرون للغوص في بحر المشاريع الصغيرة... يتبع.
مشاركة :