الفارق «المصيري».. بين استهلاك الحضارة وإنتاجها!

  • 4/1/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تبادر «دارة الأنصاري للفكر والثقافة»*، بالتعاون مع جريدة «الأيام»، كناشر حصري، بإعادة نشر بعض مقالات أ. د. محمد جابر الأنصاري «بتصرف»، وتحمل المقالات المختارة قراءة للحاضر من ماض قريب.توصلنا في رحلة استكشافنا لدائرة الفعالية الثقافية إلى إنه يتوجب البحث قبل كل شيء عن تلك القضايا المحورية والمشكلات الأساسية التي تهم في الصميم انساننا ومجتمعنا ومرحلتنا التاريخية، ثم التعبير عن معاناتنا بكل وسائل التعبير الثقافي التي عرفها الإنسان من شعر، وقصة، ونقد، ومسرح ورسم تشكيلي. إذا اخترقنا كل أشكال «الثقافة القشورية» التي تحيط بنا من تقليد للأقدمين أو استيراد من الغرب أو انشغال بالتوافه والقشور، ونفذنا إلى صميم تلك الدائرة.. إلى نقطة المحور فيها.. نكون قد بدأنا الخطوة الأولى في طريق الألف ميل كما يقولون، نحو إيجاد «نهضة ثقافية حقيقية» في مستوى التحديات الحضارية التي تحدق بنا.غير إننا يجب أن نعترف منذ البدء أن هذه العملية وإن كانت واضحة نظريًا كما نطرحها، فإن التوصل واقعيًا إليها ليست بالمسألة السهلة على الإطلاق!قلنا.. قضايا «محورية ومسائل أساسية» تهم انساننا ومجتمعنا في الصميم. ولكن أية قضايا.. وأية مسائل؟نحو جهدٍ جماعي..لن أسارع إلى إعطاء قائمة بهذه الأولويات الثقافية والفكرية. ولا يستطيع أي إنسان بمفرده أن يتوصل إلى الصيغة السليمة والمتكاملة لهذه الأولويات. المطلوب هنا جهد فكري جماعي من القيادات الثقافية للمجتمع، بل ومن كل مواطن مخلص مستنير يجد في نفسه القدرة على إضاءة ولو شمعة صغيرة واحدة في طريق البحث عن ثقافة حية لمجتمعنا.. وأريد هنا أن أشير إلى مسألة منهجية هامة في عملية البحث.فالشاعر والناقد والمفكر والباحث في العلوم الاجتماعية لن يستطيعوا وحدهم التوصل إلى الحقيقة بدون تفاعل حقيقي، كما إن المثقف ثقافة تقليدية خالصة والمثقف ثقافة عصرية خالصة يحتاجان إلى ذات التفاعل والتكامل في محاورة عضوية حميمة لا بد منها.هذه هي مختلف جوانب «الإشكالية». وإذا طبقنا هذه «الإشكالية» على مجتمعاتنا «الاستهلاكية» في هذه المنطقة، نجد أن المعاناة الثقافية الحقيقية لقضايا الحياة المحورية لم تعد حاجة ضرورية في حياة الأفراد بصفة عامة، بسبب ما جلبه الرخاء المادي الاستهلاكي من اهتمامات طفيلية ومظهرية غطت على المعاناة الحقيقية وصرفت عنها الاهتمام وأخرجتها من بؤرة الوعي الاجتماعي. ففي المجتمعات المتقدمة مازالت الثقافة حاجة ضرورية ليست بالمعنى الحضاري العميق الذي أشرنا إليه فحسب، وإنما بالمعنى العملي المباشر. فالمصانع هناك تحتاج إلى معاهد أبحاث لتطوير منتوجاتها وزيادة أرباحها، ومؤسسات أبحاث الفضاء بحاجة إلى المزيد من العلماء في الحقول النظرية والتطبيقية ومؤسسات الطاقة البديلة تعمل في البحث العلمي ليل نهار للبحث عن بديل للنفط وهكذا. أي أن العلماء والمثقفين هم قوة إنتاجية أساسية في المجتمع لا غنى عنها لتطوره وانتاجه.أما مجتمعاتنا العربية، فإنها تستطيع بالمال شراء أحدث المعدات والأجهزة وتوظيف أكبر العقول الاستشارية. والخطورة في هذه العملية إننا نشتري الاختراع، دون أن نمر بمراحل المعاناة العلمية الاختبارية التي مر بها الاختراع في البيئة المتقدمة. معنى السيارة!إن أي اختراع نشتريه اليوم، إذا تتبعنا جذوره الحضارية نجد إنه حصيلة عصر النهضة الأولى «الرينسانس»، فالكشوف الجغرافية، فالحركة العلمية، فالقفزة الصناعية فالتكنولوجيا المعاصرة. ومن يقود السيارة عندنا، يتصورها كائنًا سويًا قد جاء هكذا، دون أن يتصور كل عصور المعاناة تلك!وهنا الخطورة، نحن نتعاطى مع منتوجات الحضارة لا الحضارة ذاتها من الداخل. ثم نتصور بسبب قدرتنا الشرائية إننا نستطيع أن نستورد كل اختراع، فلماذا نتعب أنفسنا -إذن- بمعاناة الاختراع ومشكلاته؟وصاحب الاختراع نفسه مرتاح لهذا الوضع. فهو قد تعود على «الإنتاج» ويريدنا نحن أن نتعود على «الاستهلاك»، والاستهلاك المستمر بلا نهاية، هكذا تعمل مصانع دول الإنتاج وتربح وتزدهر. وكذا فإن من يهتم بالثقافة اليوم في مجتمعنا يفعل ذلك لحاجة فردية خاصة به لا استجابة لحاجة اجتماعية عميقة. ولكن الثقافة في جوهرها.. هي بذرة اجتماعية لا فردية.كما أن المؤسسات العامة عندما تشجع الثقافة تفعل ذلك لأن الثقافة في نظرها مظهر من مظاهر التقدم، وليس لأنها هي ذاتها تقوم على الثقافة ومعاناتها والحاجة العميقة إليها.الجهاد الأكبر هو المعاناة الحضارية..غير أنه يجب التنبه إلى أن الأساس الحضاري الإسلامي لمجتمعاتنا يرفض هذا الاستلاب الثقافي، القادم مع ظاهرة الاستهلاك. فالإسلام هو دين الثقافة منذ الأصل. لقد تحدى الأميين بكلمة اقرأ. وجاء للأميين بكتاب عظيم ليقرأوه ويفهموه ويطبقوه.وما كان ممكنًا للعرب النجاح في تعريب تلك المنطقة الواسعة من العالم ثقافيًا في صدر الإسلام لو لم يكن هذا الدين الحنيف دين ثقافة ومعاناة لقضاياهم. ففهم القرآن الكريم معاناة لغوية وفكرية وروحية. والتدقيق في سند الحديث النبوي علم له أصوله وقواعده. والفقه بما فيه من قياس واجتهاد وتشريع جهد فكري هائل وهكذا.ثم أن مفهوم «الجهاد الأكبر» في الإسلام، أي مكابدة النفس ومعاناة قضايا الحياة، خارج ساحة القتال وفي كل ساعة من الحياة اليومية، هو في نظري أكبر مدخل لترسيخ مفهوم المعاناة الثقافية كما عرفناه.«الجهاد الأكبر» هو مواجهة مستمرة بالتخطي والتجاوز لمشكلات الحياة وقضاياها الصعبة، وعندما نعبّر عن جهادنا الأكبر بالكلمة والفكرة والريشة المبدعة نكون قد انتجنا ثقافة معبرة عن ذلك «الجهاد الأكبر» المطلوب من كل مسلم في كل لحظة من لحظات الحياة. ذلك الجهاد الذي علمنا النبي الكريم أنه أكبر من جهاد الحرب، على ما في جهاد الحرب من شرف واستشهاد.] ] ]والآن ما الحل لأزمتنا الثقافية الراهنة؟.إيجاز الحل أن نرفع عن أبصارنا غشاء الترف الاستهلاكي المحدق بنا والذي تريده القوى الأجنبية لنا. وأن ننظر إلى ما تحته من واقع وأن نحدد بأمانة مع النفس وبصدق مع الحقيقة ما هي قضايانا المحورية واحتياجاتنا العميقة التي تتطلب المعاناة والنظر والتعبير والحل، ثم ننطلق فكرًا وشعرًا وراوية وفنًا نستجيب لتلك القضايا. عندها سنجد إن ما ننتجه من شعر وفكر أصيل وعميق وحقيقي سيكون له وقعه وصداه لدى الناس وفي أورقة أنديتنا وجمعياتنا وصحفنا ودور نشرنا، لأنها سيكون لديها المادة الحية التي تستطيع أن تقدمها وتجذب إليها الاسماع والعقول والقلوب.وأخشى أن ما نشهده اليوم من أدب جديد غامض ولا معقول هذه الأيام لن يساعدنا على استكشاف تلك القضايا ورؤيتها، فالأمم تبدأ نهضاتها بالوضوح – على نور الشمس لا في دهاليز النفس المعتمة.وإذا كنا نلوم مجتمعنا بأنه لا يقرأ، أفترانا نساعده على القراءة إذا قدمنا له أدبًا مغرقًا في الغموض، لا يفهمه غير كاتبه.. هذا إذا فهمه!. وما طرحته هنا هو محض اجتهادات وآراء تكونت لدي من معاناتي لقضية الثقافة في منطقتنا ومن دراستي لأدبها القديم والجديد على ضوء التجارب الإنسانية. وإني لأرجو مخلصًا أن تكون القضية أسهل مما تصورت، وأبسط مما عانيت. ولكن هكذا أرى المسألة بلا رتوش.*دارة «الأنصاري» للفكر والثقافة هي مؤسسة ثقافية تهدف إلى الحفاظ على إنتاج الدكتور الأنصاري وأعماله الفكرية والأدبية التي اهتم بها وركز عليها طوال مسيرته العلمية، وفي مقدمتها، التعريف بالجوانب المضيئة للحضارة الإسلامية والتراث العربي، لتكون متاحة للمختصين والمهتمين للبناء عليها وإثراءها. هذه المقالة نشرت في جريدة الرياض قبل 41 سنة (1979م).

مشاركة :