في شهر يناير (كانون الثاني) القادم إذا أسعدني الحظ بالوصول إليه سأبلغ الثمانين من عمري. ولقد وُلدت في شبرا البلد، وهي قرية تابعة لمحافظة القليوبية وضاحية من ضواحي القاهرة، وفي سن الرابعة انتقلت الأسرة إلى دمياط، فقد كان أبي يعمل شرطيا. كان قارئا ممتازا ورساما وكاتب قصة قصيرة. وفي دمياط حصلت على الجنسية الدمياطية بالإقامة، لا أعرف لي بلدا غيرها. بعد حصولي على الشهادة الابتدائية عام 1949 وكأي مراهق طموح، قررت الالتحاق بمدرسة الصناعات العسكرية الحربية، ومكانها في منطقة العباسية بالقاهرة، لكي أتخرج صولاً ميكانيكيًا بعد سبعة أعوام، ياه.. يا للمستقبل المشرق، صول في الجيش وميكانيكي أيضا.. يا لحظي السعيد. نجحت في الكشف الطبي، وفي كشف الهيئة وضعوا نحو عشرين اسما في الاحتياط لحين تدبير أماكن لنا، وفشلت في الالتحاق بالمدرسة، كان فشلي الأول، عدت بعده إلى دمياط أجُرّ أذيال الخيبة. فات موعد الالتحاق بالمدرسة الثانوية فالتحقت بالمدرسة الثانوية الخاصة في دمياط، وكان فشلي الثاني، فقد كانت المدارس الخاصة في ذلك الوقت خاصة بالطلبة الفاشلين فقط. أذكر أنني قضيت فيها نحو شهرين بين أكثر التلاميذ فشلا في التاريخ، فقررت ترك المدرسة والالتحاق بأي عمل ثم ألتحق بدمياط الثانوية في الشتاء القادم. كان أبي في ذلك الوقت قد ترك الشرطة وعمل في وظيفة كتابية بمحافظة دمياط، وكان له معارف في شركة أوتوبيسات «أحمد خطاب»، وهي شركة أوتوبيسات تغطي تقريبا نصف الدلتا المصرية. شركة دمياطية دما ولحما، كان الأفراد في هذا العصر الليبرالي يقودون كل المشاريع في مصر حتى على مستوى مدينة صغيرة مثل دمياط. عملت كمساريا في هذه الشركة وربما كنت أصغر كمساري في التاريخ. عملت في البداية على خط مريح هو دمياط - عزبة البرج، وهي قرية على الجانب الشرقي للنيل عند مصب النهر، وبعد ذلك انتقلت للعمل على خط دمياط المطرية. في هذه الشركة ولمدة عشرة شهور تقريبا تعلمت الكثير. سائق الأوتوبيس في هذا الوقت، كان يحتل مكانة اجتماعية راقية، وللحصول على رخصة قيادة أوتوبيس كان الأمر يتطلب اختبارات مهنية ونفسية شاقة، وكان من الطبيعي أن تجد سرادقا منصوبا في حارة ما أو شارع ما وبه حفل موسيقي ومطربون ومطربات وراقصات، هم يحتفلون بحصول شخص على رخصة أوتوبيس، «أمنيبوس» كما كانوا يسمونها في ذلك الوقت. من ناحية الشكل والهيئة، تشعر على الفور تجاههم بالاحترام. هم جميعا أصحاب ملامح توحي بالمسؤولية. أما على الخطوط الأكثر أهمية مثل خط دمياط - القاهرة والأوتوبيس «اللوكس» فقد كان سائقه يعطي الانطباع أنه وزير أو رئيس حزب. أما الكمسارية الذين يعملون على هذا الخط فقد كانوا أشبه بأولاد الذوات. ماذا عن المرتب؟ بالنسبة للكمساري 14 قرشا يوميا + 14 قرشا مضافا إليها علاوة الغلاء، يعني نحو ثمانية جنيهات شهريا + مكافأة الإيراد التي يصرفها الكمساري والسائق أسبوعيا. أنا أعتقد أنها تساوي الآن الحد الأعلى لدخول كبار المسؤولين، وهو أربعون ألف جنيه شهريا. طبعا في مقابل ذلك، كان يتم تطبيق ذلك المبدأ الشهير «Hire and fire»، عند أي إهمال جسيم توجد الجملة الشهيرة «يفصل ويصفى حسابه».
مشاركة :