سيد القوم خادمهم

  • 6/15/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عَمْرو الذّي هَشَمَ الثَّريـدَ لِقومِه .... قومٍ بمكَّةَ مُسْنِتين عِجافِ (مطرود بن كعب الخزاعي) تخيل نفسك قائدا لغواصة نووية تنتج وقودها وماءها وهواءها بنفسها. وتبحر تحت الماء في أعماق المحيطات، وتحمل أكثر من 130 شخصا على ظهرها، أو على الأصح في بطنها، الذي لا يتجاوز طوله المئة متر بكثير. وأنك تقضي مع البحَّارة أكثر من ثلاثة أشهر لا ترون أشعة الشمس ولا الناس ولا الحياة. فليس هناك سماء ولا أرض، ولا شروق ولا غروب. وهي لا تحتاج لأن تطفو على سطح البحر إلا للحصول على الغذاء، الذي لا يكفي مخزونه لأكثر من مئة يوم. مراقد موظفيك مرصوفة فوق بعضها كالألواح، وليس لأحد منهم مرقد خاص به. فعندما ينتهي وقت نوم أحدهم المحدد، ينزع غطاء سريره ومخدته ليحل مكانه شخص آخر. يُسمح لكل بحار بدقيقتين تحت المروش، وعشر دقائق لتناول الأكل في كل وجبة. وعمل الغواصة كله سري لا يجوز البوح به لأحد. بالطبع ليس هناك “واي فاي” تمنحه لهم ولا اتصال مباشر بين البحَّارة وعوائلهم. وهم يعملون بنظام الورديات لأنه لا يصح أن يُترك العمل ولو للحظة واحدة. فالغواصات عملها هو التجسس وجمع المعلومات حول الأعداء والأصدقاء، عن طريق رصد كل الإشارات التي تتلقاها الغواصة على مدار الساعة. أنت تعمل في نظام عسكري صارم. ولديك صلاحيات مطلقة في إدارة الغواصة وبحارتها. ولكنك في المقابل تعمل في جو غير طبيعي وظروف نفسية قاسية غير اعتيادية، نتيجة العوامل التي ذكرت سابقا. إن تصرفت كما يتصرف بعض المسؤولين العسكريين فوق التراب، بالاهتمام بالجانب الميكانيكي الآلي للسلاح والمعدات، وأهملت بناء الجسور الاجتماعية مع البحارة، ونأيت بنفسك عنهم، واكتفيت بإصدار الأوامر وإنزال العقوبات، فإنك لن تنجح طويلا. بل قد لا يعود أكثر بحارتك إلى الغواصة في أول فرصة لهم للخروج منها على اليابسة، إن لم يتمردوا عليك في الغواصة. الحل هو أن تدع السلطة العسكرية جانبا. وأن تعطي الأولوية للجانب الإنساني، فتتحول إلى أب وأخ وأم وصديق، بل وطبيب ومستشار لهم. تتواصل مع كل فرد فيهم، وتعرف كل بحارتك بأسمائهم وتتعرف على ظروف كل منهم وحاجاته. وتعمل جهدك للمساعدة في حل مشاكلهم المالية والاجتماعية والصحية والنفسية. وفي نفس الوقت تمنحهم الثقة والصلاحيات ليقوموا بدورهم، وتجعل منهم قادة يثقون بأنفسهم. فالقيادة هي فن إدارة البشر وليس إدارة الأشياء. والسلطة لكي تنجح، يجب أن تدفع للأسفل بدلا من دفعها للأعلى. والعمل الجماعي - وخاصة في ظروف كهذه - مهم جدا، بل ضروري، لتكون المسؤولية مشتركة، فأنت لا يمكن أن ترى نصف الغواصة غاطسا ونصفها الآخر طافيا. هذا ليس عملا نظريا، بل هي تجربة خاضها أكثر من قائد، ورصدها أحدهم (ماركوبت) في كتاب ألّفه في العام 2012، بعنوان “استدارة السفينة: تحوّل التابعين إلى قادة.” فقد نجح ماركوبت وآخرون مثله في تحويل العمل تحت الماء إلى مهمة ناجحة بتحولّه إلى خادم لزملائه. والموضوع ليس بجديد كذلك، فأدبيات الإدارة قدمت نموذج القائد الخادم منذ الربع الأخير من القرن العشرين. فقد أكد غرينليف (1977) أن القائد الخادم يضع احتياجات ومصالح الآخرين فوق مصالحه. وهو يختار ذلك بتصميم وإيمان عميقين. وهذا لا يعني بتاتا، أن القائد الخادم قد يشكو من ضعف في ذاته أو عدم ثقة في نفسه. بَل على العكس من ذلك تماما، فإن احترام الذات والقناعة الأخلاقية والاستقرار العاطفي هي التي تقود القائد ليكون خادما لزملائه. ومن الطبيعي أن يكون الهرم الإداري مقلوبا عند تطبيق سياسة القائد الخادم، بمعنى أن القائد يكون مسؤولا أمام مرؤوسيه لا العكس. فقادة قريش أخذوا الزعامة بخدمة الناس وليس بأي شيء آخر. فقد كانوا يتسابقون على رفادة الحجاج وسقايتهم وحمايتهم، فأصبحوا قادة خداما. وكان هاشم بن عبد مناف سيدهم في ذلك. وصورة شاهدها أحدهم قبيل اجتماع لمجلس الإدارة في شركة كبرى (سيرفيس ماستر)، حيث سكب الرئيس التنفيذي للشركة (وليام بولارد) فنجانا من القهوة على الأرض. وبدلا من استدعاء شخص لتنظيفه، فقد تناول صابونا وقطعة قماش مبلولة، وجثا على يديه وركبتيه على الأرض ينظف السجاد بنفسه. لكن الحقيقة أن معظم الناس يصرفون جلّ وقتهم ليجدوا طريقة لوضع أنفسهم تحت الضوء، بدلا من خدمة الآخرين وإبرازهم. إن معظم الناس يفشلون في تطبيق مفهوم القائد الخادم رغم علمهم بأن نجاحهم الشخصي وتحقيقهم لذواتهم مرتبط ارتباطا وثيقا بمقدار مساعدتهم للآخرين، أكثر مما يفعلونه لأنفسهم. وأن القيادة الحقيقية تبدأ في اللحظة التي ندرك فيها أن القيادة لها علاقة بسيطة فقط بشخص القائد. ولكن لها كل العلاقة بالناس الذين نخدمهم.

مشاركة :