منذ آلاف السنين، وجدت البشرية نفسها وجها لوجه مع العديد من الأمراض والأوبئة التي جاءت لتتسبب في إزهاق عدد هائل من الأرواح. وتصنف أمراض كالجدري والدفتيريا والسل والحمى الصفراء والتيفوس وشلل الأطفال والحصبة والزهري ضمن قائمة أكثر الأمراض فتكا بتاريخ الإنسانية. ففي السابق فارق سنويا الملايين الحياة بسببها. لكن مع بداية القرن العشرين وتقدم العلوم، حمل العديد من كبار الأطباء والعلماء على عاتقهم مهمة تخليص البشرية من هذه الأمراض الفتّاكة فأجروا العديد من الأبحاث عليها وتمكنوا من ابتكار عقاقير ولقاحات مضادة لها. وإضافة لعلماء كألكسندر فلمنج وجوناس سولك وشارل نيكول وإميل فون بهرنغ وروبرت كوخ وماكس تيلر، دوّن التاريخ اسم العالم الأميركي جون فرانكلين إندرز (John Franklin Enders) حيث لعب الأخير دورا هاما في مجابهة أمراض عدّة كانت أبرزها الحصبة وشلل الأطفال ليحصل بفضل ذلك على جائزة نوبل للطب ويلقّب لاحقا بأب اللقاحات الحديثة. ولد جون إندرز يوم 10 شباط/فبراير 1897 بمدينة ويست هارتفورد التابعة لولاية كونيتيكت (Connecticut) لعائلة ثرية حيث كان والده مديرا تنفيذيا لأحد البنوك المحلية وترك لعائلته ثروة قدرت بحوالي 19 مليون دولار عقب وفاته. وقد التحق جون إندرز لفترة وجيزة بجامعة ييل قبل أن ينضم للجيش الأميركي سنة 1918 للمشاركة بالحرب العالمية الأولى. ومع نهاية النزاع العالمي، عاد إندرز مجددا لجامعة ييل التي تخرج منها بعد فترة وجيزة. لاحقا، تخصص هذا العالم الأميركي في مجال العلوم الطبيعية والأبحاث البيولوجية والتحق بجامعة هارفارد وجامعة مستشفى الأطفال ببوسطن. ما بين عامي 1930 و1946، عمل جون إندرز لصالح جامعة هارفارد فأجرى أبحاثا على المناعة ومرض السل. وسنة 1938، باشر هذا العالم الأميركي رفقة عدد من زملائه العمل على بعض الفيروسات التي هددت البشر فاتجه في البداية نحو الفيروس المسبب لمرض النكاف وقدّم بعد جملة من الأبحاث طرقا لتشخيص المرض عن طريق تجارب على مصل الدم والجلد كما أثبت إمكانية تضعيف فيروس النكاف عن طريق تمريره بأجنة الدجاج ممهدا بذلك الطريق للقضاء على هذا المرض. سنة 1949، قاد جون إندرز رفقة عالم الفيروسات الأميركي توماس هكل ولر (Thomas Huckle Weller) ومواطنه الآخر طبيب الأطفال فردريك شبمان روبنز (Frederick Chapman Robbins) أبحاثا مخبرية حول الفيروس المسبب لشلل الأطفال فأكدوا قدرة هذا الفيروس على النمو بمزارع تكونت من أنواع مختلفة من الأنسجة وأثبتوا بذلك إمكانية استزراع ودراسة فيروس شلل الأطفال خارج الجسم. وقد سميت هذه الطريقة حينها ب "إندرز- ولر- روبنز" نسبة لهم واعتمدها جوناس سولك بالخمسينيات لإنتاج لقاح شلل الأطفال. وبفضل هذه الأبحاث حول الفيروس المسبب لشلل الأطفال، حصل كل من إندرز وولر وروبنز على جائزة نوبل للطب لعام 1954. سنة 1954، طلب الطبيب توماس بيبلز (Thomas C. Peebles)، زميل إندرز، من الطفل ديفيد إدمونستون (David Edmonston) البالغ من العمر 11 سنة والمصاب بالحصبة تقديم خدمة للإنسانية عن طريق السماح له بجمع كمية من إفرازات حلقه بهدف عزل فيروس الحصبة. وبفضل ذلك، تمكّن الباحث جون فرانكلين إندرز من إنتاج لقاح لهذا المرض الذي أصيب به سنويا ملايين الأميركيين دون سن الخامسة عشرة وفقد جراءه المئات منهم حياتهم. فعقب عزله للفيروس، أقدم جون إندرز على تمريره عبر خلايا سلى وكلية بشرية وأجنة دجاج ليحصل في النهاية على فيروس مضعّف حقنه بأحد القردة وحصل على نتائج إيجابية. لاحقا، أقدمت مجموعة من العاملين لدى إندرز على تجربة هذا اللقاح بشكل محدود على أطفال أميركيين ونيجيريين لتتأكد من فاعليته. وبفضل ذلك أعلن العالم الأميركي إندرز على ظهور سلالة إدمونستون، نسبة للطفل ديفيد إدمونستون، المضعّفة من فيروس الحصبة التي استخدمت في إنتاج اللقاح. وبفضل مجهود إندرز، تراجع عدد المصابين بالحصبة بالولايات المتحدة الأميركية بشكل لافت للانتباه فقدر سنة 1968 بنحو 22 ألف حالة فقط.
مشاركة :