إعداد : عثمان حسن «علينا أن نمنح الماشية حياة كريمة، وموتاً ليس مؤلماً، نحن مدينون باحترامها».. هذا قول للأستاذة الأمريكية المصابة بالتوحد، تيمبل جراندين، المختصة في علوم الحيوان، ومستشارة صناعة الماشية، والتي تعتبر مرجعاً لحقوق المصابين بالتوحد. قامت بتأليف أكثر من 60 بحثاً علمياً حول سلوك الماشية، واخترعت جهاز «هاج بوكس» لتهدئة من يعانون التوحد. وورد اسمها ضمن قائمة مجلة التايم في عام 2010 لأكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم، وكانت موضوعاً لفيلم «تيمبل جراندين» شبه الببلوجرافي، والحائز على جائزتي إيمي، وجولدن جلوب. ولدت ماري تيمبل جراندين، في بوسطن ماساتشوستس، في 29 أغسطس/ آب 1947، لعائلة ثرية للغاية. والدتها هي آنا يوستاسيا بورفيس (الآن كاتلر)، ممثلة، ومغنية، وحفيدة جون كولمان بورفيس (مخترع مشارك لنظام الطيران الآلي)، أما والدها فهو ريتشارد ماكوردي جراندين، وكيل عقارات، ووارث أكبر شركة مزارع قمح في أمريكا في ذلك الوقت، تطلّق والداها عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وتزوجت والدتها لاحقاً من بن كاتلر، عازف الساكسفون الشهير في نيويورك، في 1965 حين كانت جراندين تبلغ 18 عاماً، وتوفي والدها ريتشارد جراندين، في كاليفورنيا عام 1993. هي البنت البكر، وأختها الصغرى فنانة، ولها أخت نحاتة، وشقيقها مصرفي. وجدها هو جون ليفينجستون جراندين، وشقيقه ويليام جيمس جراندين، من أصول فرنسية عملا في مجال التنقيب عن النفط. تشخيصها بالتوحد لم يتم تشخيص جراندين رسمياً، بالتوحد حتى بلوغها سن الرشد. وعندما كانت في الثانية من عمرها تم تشخيصها بمرض «تلف الدماغ»، وهي النتيجة التي تم تأكيدها من خلال صورة الرنين المغناطيسي بجامعة يوتا، حين بلغت من العمر 64 عاماً في عام 2010. طفولتها عرضتها والدتها على كبار الباحثين في مجال ذوي الاحتياجات الخاصة في مستشفى بوسطن للأطفال، وعثرت في النهاية على طبيب أعصاب اقترح تجربة علاج النطق. وتم التعاقد مع معالج الكلام، وتلقت جراندين تدريباً شخصياً حين بلغت عامين ونصف العام، وخصصت والدتها مربية لها في الثالثة من عمرها، ودخلت روضة أطفال في مدرسة ديدهام الريفية. وسعى معلموها لخلق بيئة تلبي احتياجاتها، ووضعها الخاص. كتبت جراندين لاحقاً عن هذه المرحلة، وصولاً للمدرسة الإعدادية، والثانوية، التي كانت أكثر الأوقات حزناً في حياتها. المدرسة المتوسطة والثانوية من الصف السابع إلى التاسع، التحقت جراندين بمدرسة بيفر كانتري، وفي الرابعة عشرة تم طردها لأنها رمت كتاباً على زميلتها التي سخرت منها. ووصفت نفسها بأنها «الفتاة التي كانت تردد ما تحفظه» في الممرات والذي كان مثار سخرية زملائها، ونعتهم لها ب«الشريط المسجل»، تقول: «يمكنني أن أضحك على ذلك الآن، ولكنه كان يؤلمني في ما مضى». سجلتها والدتها في مدرسة ماونتن كانتري (المعروفة الآن بمدرسة هامبشاير)، وهي مدرسة داخلية خاصة في رندج، للأطفال الذين يعانون مشاكل سلوكية. هناك التقت ويليام كارلوك، مدرس العلوم الذي عمل في وكالة «ناسا». وأصبح معلمها، وساعد بشكل كبير في بناء ثقتها بنفسها. وهو من حفزها لبناء صندوق العناق الخاص بها (المشار إليه باسم «آلة الضغط» من قبل جراندين)، وفي سن 18 التحقت بمدرسة ماونتن كانتري، بمساعدة كارلوك وقامت ببناء صندوق العناق. واستمر دور كارلوك الداعم في حياتها حتى بعد أن غادرت مدرسة ماونتن كانتري. وعلى سبيل المثال، عندما كانت جراندين تواجه انتقادات لصندوق العناق الخاص بها في كلية فرانكلين بيرس، كان كارلوك هو الذي اقترح أن تقوم بتجارب علمية لتقييم فعالية الجهاز. لقد كان توجيهه المستمر لها سبباً في إنجازها هذا الجهاز الذي تم الاستشهاد به على نطاق واسع في ما بعد. من أقوالها: «أعتقد أن استخدام الحيوانات في الطعام، هو أمر لا بأس به، لكن علينا القيام به بشكل صحيح. علينا أن نمنح هذه الماشية حياة كريمة، ونمنحها موتاً ليس مؤلماً، نحن مدينون باحترامها». التعليم الأكاديمي بعد تخرجها في ماونتن كانتري، عام 1966، حصلت على درجة البكالوريوس في علم النفس البشري من كلية فرانكلين بيرس عام 1970، ودرجة الماجستير في علوم الحيوان من جامعة ولاية أريزونا عام 1975، ودرجة الدكتوراه في علوم الحيوان من جامعة إلينوي في أوربانا شامبين 1989. مسار وظيفي كتب ستيف سيلبرمان في كتابه «نورو ترايبز» أن جراندين ساعدت في كسر سنوات من الخجل التي رافقتها حين اكتشف إصابتها بالتوحد، أما برنارد ريملاند، وهو أب لابن مصاب بالتوحد، ومؤلف كتاب «توحد الطفولة» فكتب مقدمة كتاب جراندن الأول: (دليل التوحد) ونشر في عام 1986. وكتبت ريملاند «إن قدرة تيمبل على نقل المشاعر والمخاوف العميقة إلى القارئ، إلى جانب قدرتها على شرح العمليات العقلية ستعطي القارئ نظرة ثاقبة عن التوحد، وهو الذي لم يسبقها أحد في تحقيقه». وفي كتابها الأخير، «التفكير بالصور» ونشر عام 1995، كتب عالم الأعصاب أوليفر ساكس في نهاية المقدمة «قدم الكتاب جسراً بين عالمنا وبينها، وسمح لنا بإلقاء نظرة على نوع آخر من العقل». وفي كتاباتها المبكرة، وصفت جراندين نفسها بأنها متوحدة متعافية، واستخدم برنارد ريملاند في مقدمته مصطلح فرد مصاب بالتوحد. وفي كتاباتها اللاحقة، تخلت عن هذا الوصف. وكتب ستيف سيلبرمان: «لقد أصبح الأمر واضحاً بالنسبة إليها، ورغم أنها لم تتعاف، فإنها بذلت جهداً كبيراً للتكيف مع السلوكات الاجتماعية للأشخاص من حولها». وعندما ألّفت كتابها «التفكير بالصور» في عام 1995، اعتقدت جراندين أن جميع الأفراد المصابين بالتوحد فكروا في نمط واحد من الصور الفوتوغرافية، وحين نشرت النسخة الموسعة من الكتاب عام 2006، أدركت أنه كان من الخطأ افتراض أن كل شخص مصاب بالتوحد عالج المعلومات بالطريقة نفسها التي قامت هي باتباعها، وكتبت أن هناك ثلاثة أنواع من التفكير المتخصص: المفكرون البصريون مثلها، الذين يفكرون في صور خاصة بالصور الفوتوغرافية. والمفكرون في الموسيقى والرياضيات، الذين يفكرون في أنماط محددة، وهؤلاء يبرعون في الرياضيات، والشطرنج، وبرمجة الكمبيوتر. ومفكرو المنطق اللفظي، من يفكرون في تفاصيل الكلمات، ولاحظت أن موضوعهم المفضل قد يكون التاريخ. وفي أحد كتبها اللاحقة، (العقل المتوحد: التفكير عبر الخيال)، تم توسيع مفهوم الأنواع الثلاثة من التفكير من قبل الأفراد المصابين بالتوحد، ونُشر هذا الكتاب عام 2013. وأثر فيها كتاب كلارا كليبورن بارك «إكسايتنج نيرفانا: حياة ابنة مصابة بالتوحد» ونشر عام 2001. وفي كتابها «العقل المتوحد» قدمت جراندين مراجعة شاملة للدراسات العلمية التي تقدم دليلاً على أن التفكير البصري في موضوعات وأشياء محددة، يختلف عن قدرات التصور البصري بفضاءاته المفتوحة. وأصبحت جراندين معروفة أكثر من مجتمع المصابين بالتوحد في الولايات المتحدة، وهذا الكتاب وصفه أوليفر ساكس في مؤلفه «عالم الأنثروبولوجيا على المريخ (1995)، الذي فاز بجائزة بولك. وفي منتصف الثمانينات تحدثت جراندين لأول مرة علناً عن مرض التوحد بناء على طلب من روث سوليفان، إحدى مؤسسات جمعية التوحد الأمريكية. وكتبت سوليفان: «قابلت تيمبل لأول مرة في منتصف الثمانينات في المؤتمر السنوي لجمعية التوحد، كانت تقف بمحاذاة مجموعة الحاضرين، امرأة شابة طويلة، كان من الواضح أنها مهتمة بالمناقشات. بدت خجولة، ولكنها ظريفة، فضلت أن تستمع إلى المناقشات بدلاً من الكلام، وعلمت أن اسمها تيمبل جراندين. لقد أدركت أنها كانت مصابة بالتوحد. لقد اتصلت بها، وسألت عما إذا كانت مستعدة للتحدث في مؤتمر العام المقبل. وافقت، وفي العام التالي خاطبت تيمبل الجمهور لأول مرة». وتضيف سوليفان: «كان الناس واقفين بصفوف ثلاثة، لم يستطع الحاضرون الحصول على ما يكفي منها. هنا، ولأول مرة، كان هناك شخص يمكنه أن يخبرنا من تجربته الخاصة، حول ارتباطه بالسكك الحديدية، وقدوم القطار، وقد طُرحت عليها أسئلة كثيرة: «لماذا يقبض ابني أذنيه بيديه»، لماذا لا ينظر إلي؟»، تحدثت من تجربتها الخاصة، وكانت رؤيتها مثيرة للإعجاب. كانت هناك دموع كثيرة في أعين الحاضرين في ذلك اليوم. وسرعان ما أصبحت تيمبل متحدثة مطلوبة بقوة في مجتمع التوحد». لقد وصفت جراندين فرط الحساسية للضوضاء والمنبهات الحسية الأخرى. تقول «إن الكلمات هي لغتها الثانية، وإنها تفكر» بشكل كامل في الصور «مستخدمة ذاكرتها البصرية الواسعة لترجمة المعلومات إلى عرض شرائح ذهنية مصورة». ملاحظة التفاصيل الصغيرة تعزو جراندين نجاحها كمصممة منشأة ماشية إنسانية، إلى قدرتها على تذكّر التفاصيل، وهي سمة من سمات ذاكرتها البصرية. وتقارن ذاكرتها بخزين أفلام كاملة في رأسها، ويمكن إعادة عرضها حسب الرغبة، ما يسمح لها بملاحظة التفاصيل الصغيرة. وتعرض هذه الذكريات باستخدام سياقات مختلفة قليلاً عن طريق تغيير أوضاع الإضاءة، والظلال. وتعتقد أن الأطفال المصابين بالتوحد والذين يعانون إعاقات شديدة، يحتاجون إلى العلاج من خلال التحليل السلوكي التطبيقي. وفي عام 1980، نشرت جراندين أول مقالتين علميتين حول سلوك الماشية، وكيفية التعامل معها، بتصميم مرافق المناولة، وكانت من أوائل العلماء الذين أفادوا بأن الحيوانات حساسة للانحرافات البصرية في مرافق المناولة، المعرّضة للظلال، والسلاسل، والتفاصيل البيئية الأخرى التي لا يلاحظها معظم الناس. وعندما حصلت على الدكتوراه من جامعة إلينوي، درست آثار التخصيب البيئي عفي الخنازير. وكان عنوان أطروحتها «تأثير تربية البيئة والإثراء البيئي في السلوك والتنمية العصبية في الخنازير الصغيرة». وقامت جراندين بتوسيع نظرياتها في كتابها، (الحيوانات تجعلنا آدميين). وفي عام 1993، قامت بتحرير الطبعة الأولى من (التعامل مع الماشية ونقلها). وكتبت ثلاثة فصول بالاشتراك مع مساهمين من حول العالم، وطبع الكتاب تباعاً حتى عام 2014. ورقة مهمة أخرى نشرتها جراندن بعنوان «تقييم الإجهاد أثناء المناولة والنقل»، في مجلة علم الحيوان، 1997. قدمت من خلالها مفهوماً جديداً حول فن التعامل مع الحيوانات. سكة مزدوجة لنقل الماشية في منتصف الثمانينات، طورت نظاماً جديداً للعجول، عبارة عن ناقل مزدوج من السكك الحديدية، تستخدمه اليوم شركات اللحوم الكبيرة، كما طورت نظاماً عددياً يرصد رفاهة، أو سعادة الحيوان. وفي عام 2008، نشرت كتاباً يستعرض الجوانب الرئيسية لسلوك الماشية، ويحفز على بناء أفكار مبتكرة للتعامل مع الحيوانات بطريقة إنسانية. وجذب عمل جراندين اهتمام الفلاسفة المهتمين بالتعامل الأخلاقي مع الحيوانات. في الثقافة الشعبية حضرت في العديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية، وكانت موضوعاً لكثير من التعليقات والتقارير في صحف عدة، ودوريات أمريكية، عدا عن حضورها كبطلة للعديد من المسلسلات، والأفلام، كفيلم «تيمبل جراندين» من بطولة كلير دانز الذي رشح ل15 جائزة جرامي أوورد، وفاز بسبع جوائز في 2010. كما أجرى مايكل بولان مقابلة معها في كتابه الأكثر مبيعاً، معضلة أومنيفور، حيث ناقشت صناعة الثروة الحيوانية. فوي عام 2018، كانت جراندين مركز اهتمام المدافعة عن حقوق الحيوان والمؤلفة جنيفر سكيف، في كتابها «إنقاذ الخنافس» باعتبارها «بطلة عالمية». تكريم حصلت تيمبل جراندين على درجات فخرية من العديد من الجامعات، كجامعة ماكجيل في كندا (1999)، والجامعة السويدية للعلوم الزراعية (2009)، وجامعة كارنيجي ميلون في الولايات المتحدة (2012)، وجامعة إيموري (2016). في عام 2015، تمت تسميتها زميلًا فخرياً لجمعية الاتصالات التقنية. ورد اسمها ضمن قائمة مجلة «التايم» في عام 2010 لأكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم، وفي عام 2011، حصلت على زمالة أشوكا، وفي 2012، احتل اسمها قاعة نساء كولورادو للنساء الشهيرات، كما حصلت على جائزة الجدارة من المنظمة العالمية لصحة الحيوان في عام 2015. وفي عام 2016، زين اسمها الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، كما برز اسمها في القاعة الوطنية للنساء الشهيرات في 2017.
مشاركة :