الفساد الثقافي ليس أمرًا هينًا.. فهو مرتبط بذاكرة الأمة ومآلاتها التاريخية والحضارية.. الثقافة بهذا المعنى ليست عنصرًا ضافيًا.. لكن المشكلة العويصة في المثقف، عندما يعتلي سدة الحكم في الإدارة البسيطة أو الأكثر تعقيدًا.. أخرِج من هذا السياق النموذجي المثقف المقاوم للفساد والذي يملك ضميرًا عميقًا، ولكن في الأغلب الأعم، كما السياسي النقي، ينتهي إلى العزل وفي بعض الحالات إلى الحبس بحيث يتم تكريس مختلف الجرائم ضده.. أتحدث هاهنا عن نموذج غالب في العالم العربي.. يبدأ بسيطًا وصديقًا للجميع، ومتفهمًا لخيارات الناس، متعففًا عن الحكم لأنه يسلبه حريته.. هاربًا منه في ظاهره لأنه يعوقه ويمنعه من حرية أن يكون مستقلا في الرأي داخليًا وخارجيًا.. ينتقد الأوضاع ببعض الجرأة التي تقطع الحبل السري بينه وبين النظام.. ربما.. هذا الموقف النموذجي يتقن لعبة انتظر وتأمل. Wait and see إلى اليوم الذي ينادى فيه عليه للقيام بشيء.. ويكون قد اشتغل في الكواليس مستعملا أولا الحس الجهوي البغيض لأنه الأكثر تأثيرًا في ساسة جهلة وأميين لم يبق أمامهم إلا ما هو جهوي وضيق، يدافعون عنه.. ثم يتسلق في سهرة أو سهرتين ليقف أمام أصحاب القرار، من مدنيين وعسكريين ومخبرين.. وشيئًا فشيئًا تتسع شبكة صداقاته، التي تحميه ويحمي هو لها مصالحها الصغيرة بشكل خفي.. فيقوى بسرعة ويرتفع صوته ويصبح مؤثرًا في حركية المصالح.. ويصدق في النهاية أنه أصبح وزيرًا، بعد أن قطع كل العتبات التي أهلته ليحتل أعلى المراتب.. وبدل أن يكون مثقفًا يصبح سياسيًا صغيرًا وضحلاً.. وما دامت نظرته لا تتجاوز أنفه، يحيط نفسه بالحثالات الثقافية الصغيرة، ومن يخدمونه.. يضع هنا صديقه في الحزب نفسه.. هناك ابن ولي نعمته وحاميه.. هنا وهناك أبناء مدينته وقبيلته وحيه، ودربه.. من الذين يمكنه السيطرة عليهم.. وهناك بالضبط يضع من يتماهى معه، ويستعمل وجهه، ليتقاسم معه في الخفاء مالا فاسدًا بغير حق.. وكل المشاريع تمر عبره لدرجة أن تتساءل إذا لم يوجد في البلاد إلا هذا الشخص، أو ذاك.. مشكلة المثقف مثل السمك، يفسد من رأسه أولا، فيتعفن بسرعة.. وكلما ألتجأ إلى القول يتكلم كما المقاول، كل شيء محسوب وفق المصلحة.. مشكلته أنه لا يملك أي مشروع يدافع عنه.. الذي يفكر في المشاريع هو من يملك رؤية مستقبلية، ويشيد بهدف أن يترك وراءه شيئًا مميزًا مثل الوزير الفرنسي جاك لانغ، الذي أسس مدينة العلوم في لافيلات.. ورسّم عيد الموسيقى.. ووسع من متحف اللوفر برفقة رئيس عاشق للفنون، ميتران.. مشكله هذا النوع من المثقفين وهو الغالب أناني بلا حد.. ولا يفكر إلا في مصلحته.. إذا أخطأ منصبًا كبيرًا.. يكون في الخطة ب plan B يحضر لأن يكون سفيرًا.. وإذا لم يحالفه حظ السفارة، يكون قد رتب أموره ليكون وزيرًا.. ولم لا، في ظل أوضاع لا تخضع لأي منطق، ولا لأي عقل.. الوزارة الاستراتيجية؟ وزارة الثقافة، التي تربي الشعب وتمنحه وسائل الدفاع عن أرض شديدة الغنى.. وزارة ميزانيتها أقل من واحد.. صفر فاصلة في معظم البلاد العربية.. وينتهي بشكل تراجيدي لأنه يكون قد صنع قبره أو حفرته الضيقة التي يتم خنقه فيها.. قد يكون هذا المثقف أو هذا المديد أو هذا الوزير المثقف جزءًا من النظام وفي أنظمة عربية تكره المثقف عمومًا عليه أن يبذل جهودًا من الخنوع والاستسلام ليثبت لأولياء النعمة، أنه يملك قدرًا كبيرًا من التبعية والإصغاء.. وينتهي نهاية فجائعية.. وعندما يضطر إلى المغادرة وترك منصبه، يكون قد فقد عذريته.. وفي أول فرصة، وبلا أدنى خجل، يصبح معارضًا ومدينًا للإهمال الثقافي في البلاد، وحتى للدولة التي كان فيها وزيرًا.. فيصبح فجأة معارضًا مكشوفًا بعد أن خسر حلم السلطة فقط لأنه لا يملك حلم بناء معمار ثقافي وطني مهم وحضاري يشرف تاريخه الفردي والوطني. في البلدان الأوروبية وزارة الثقافة هي من أجمل وأبهى الوزارات.. العلاقة معها تختلف، لأن رهاناتها استراتيجية.. في بعض عالمنا العربي هي العجلة الخامسة، التي لا تعني الشيء الكثير سوى تكملة العدد الوزاري للحكومة، عمليًا مستغنى عنها.
مشاركة :