أتحفظ دائماً عن وصف ما جرى في تونس في أواخر 2010، ثم في مصر وليبيا وسورية واليمن في عام 2011 باعتباره ثورات، فهي انتفاضات جماهيرية واسعة أدت إلى تغيير وجوه النخب الحاكمة في تونس ومصر مع استمرار النظام والدولة والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، بينما قادت هذه الانتفاضات إلى انهيار الدولة في ليبيا وسورية واليمن وإشعال حروب بالوكالة لقوى إقليمية ودولية، اتخذت شكل الحروب الطائفية والجهوية، سقط فيها أكثر من ربع مليون قتيل، وحوالى مليوني جريح، وتجاوزت أعداد النازحين واللاجئين وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة 3 ملايين شخص. الأرقام صادمة والمشهد في الدول الخمس مختلط ومرتبك، ولا يمكن وصفه بأنه ربيع عربي، لأنه أدى إلى أوضاع كارثية في ليبيا وسورية واليمن، ومشاكل صعبة في مصر وتونس لكنها لم تصل إلى حد الحرب الأهلية وانهيار مؤسسات الدولة، وبالتالي من الصعب المساواة بين حالات الدول الخمس فثمة اختلافات تاريخية ومجتمعية، لكن تبقى هناك سمات عامة، أقلها تزامن الحراك السياسي السلمي في بداياته وانتشاره بطريقة العدوى وربما المحاكاة من تونس إلى بقية الدول العربية. ويقدم هذا التزامن دليلاً معقولاً على عافية العروبة الثقافية والسياسية. إن الحراك الشعبي الواسع وغير المسبوق الذي جرى خلال عامي 2010 و2011 في الدول الخمس، والتفاعلات التي دارت حولها في السنوات الأربع الأخيرة خضعت لتفسيرات وتأويلات عدة، لعل أهمها: أولاً: نظرية المؤامرة، وهي الأشهر والأكثر تداولاً في الأوساط الشعبية، وتنطلق من مسلمة أن أحداث السنوات الخمس الأخيرة هي مؤامرة خارجية حركتها كالعادة أميركا والدول الغربية وإسرائيل، وفي سردية أخرى أشعلتها إيران و «حزب الله»، وفي سردية ثالثة قادها «الإخوان» بدعم من تركيا وقطر. وبغض النظر عن تفاصيل السرديات الثلاث، فإنها تنفي عن الشعوب العربية القدرة على الثورة أو المطالبة بالإصلاح والتغيير، فهي دائماً في موقع المفعول به أو المسيّر من الخارج وبواسطة قوى خارجية متفوقة على إرادات الشعوب العربية ورغباتها المشروعة في الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وإقامة دولة المواطنة. ووفق أصحاب نظرية المؤامرة، فإن استسلام دول الربيع لم يكن على درجة واحدة، فلم تنهر الدولة والجيش في كل من تونس ومصر نتيجة ظروف تاريخية وتطور اجتماعي وسياسي، لكن الدولتين تعانيان من مشاكل أهمها وفق نظرية المؤامرة استمرار التآمر الخارجي عليهما! ثانياً: عجز مؤسسات الدول الخمس ونخبتها عن التوافق على خطوات للإصلاح السياسي والاجتماعي سواء قبل الانتفاضات الشعبية أو بعدها. فقد شكل الإصلاح أحد أهم مفاهيم الخطاب السياسي والإعلامي العربي قبل الربيع العربي، ومع ذلك لم يستوعب في خطوات تنفيذية ولم تستجب له النخب الحاكمة، على رغم حديثها الشكلي عنه وادعاء القيام به أحياناً، الأمر الذي فتح الطريق أمام الحراك الثوري، والمفارقة أنه بعد نزول الملايين إلى الشوارع والميادين، فإن النخب الحاكمة ومؤسسات الدولة لم تستجب أو تقدم تنازلات، وإنما كشفت عن تحيزاتها الطبقية والطائفية في شكل سافر، وفضحت هشاشة مؤسسات الدولة وطائفيتها في سورية، وقبليتها في كل من اليمن وليبيا، والأدهى أن النخب الجديدة التي وصلت إلى الحكم في مصر وتونس لم تنجح في تحقيق بعض أهم مطالب الجماهير، ربما بسبب تكوينها السياسي، أو نتيجة مقاومة بيروقراطية الدولة ومؤسساتها التي تعاني من الفساد وترفض التغيير والإصلاح، ما يثير تساؤلات قلقة في شأن الاستقرار في كل من تونس ومصر، خصوصاً أن أحداث الثورة في البلدين أرهقت الاقتصاد وأفرزت جماعات إرهابية ترفع شعارات إسلاموية. ثالثاً: مدى سلطوية نظم الحكم وتحالفاته وطبيعة تكوين مؤسسات الدولة، بخاصة الجيش في الدول الخمس. حددت هذه العوامل سلوك الانتفاضة الشعبية في كل دولة وتوقعاتها، فسادت السلمية تحركات الجماهير في تونس ومصر واليمن ضد نظام الحكم، وانحاز الجيش في البلدين لإرادة الشعب، فتخلى بن علي ومبارك عن الحكم بعد أيام قليلة، وفي المقابل اعتمد القذافي والأسد على القمع بالسلاح من اللحظة الأولى للانتفاضة، وخاضا حرباً ضد شعبيهما! فحمل الشعب السلاح، ومع انهيار الدولة طغت الجهوية والقبلية والطائفية على المعارضة السياسية ودولة المواطنة، وانحاز الجيش في أغلبه إلى الأسد بينما لم يكن هناك جيش بالمعنى المعروف في ليبيا. المعنى أن دموية نظامي الأسد والقذافي وتاريخهما الطويل من القمع فرضا على الحراك الشعبي حمل السلاح، بينما أجلت الوساطات والضمانات الخليجية استخدام علي عبدالله صالح السلاح ضد الشعب. وعرفت مصر بعد 30 حزيران (يونيو) مستويات من العنف والإرهاب على يد بعض الجماعات الإرهابية الإسلاموية إلا أنها تظل محدودة، ولا تزال الدولة قادرة على مواجهتها بصلابة وحسم، أما تونس فواجهت حالات أقل من العنف والإرهاب، لكن تبقى التهديدات قائمة. رابعاً: مدخل التحليل الثقافي. كشفت الانتفاضات الشعبية في الدول الخمس عن عمق الانقسام الثقافي والسياسي في كل مجتمع، والفشل التاريخي لمؤسسات الدولة في استيعاب هذا الانقسام وعلاجه، حيث لجأت الدولة دائماً إلى قمع تيار الإسلام السياسي بطبعاته المختلفة، وملاحقته أمنياً، والتحيز إلى القوى المدنية التي لم تكن مدنية في شكل حقيقي ربما باستثناء حالة تونس، أضف إلى ذلك التحيز لطوائف أو قبائل معينة وقمع أو التحالف القلق مع طوائف وقبائل أخرى في كل من سورية وليبيا واليمن. من هنا، شاركت بفاعلية كل القوى المقموعة من الدولة ومؤسساتها ورفعت شعارات الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، لكنها من داخلها كانت تخوض معاركها الدينية والطائفية والقبلية والجهوية. هكذا، اختلط الحداثي بالديني بالتقليدي مع نزعة ثأرية للانتقام من كل رموز الدولة الحديثة وقيمها، ووجدت تلك النزعة طريقها بالسلاح في سورية وليبيا، وبدرجة أقل في اليمن، فيما بدت نزعة الانتقام لدى «الإخوان» وحزب «النور» ضد كل ما هو مدني أو حداثي بعد نجاحهما في الحصول على غالبية برلمان ما بعد الثورة. وكان تفرد «الإخوان» بالحكم واستبعاد كل القوى المدنية التي ساندت مرسي في الانتخابات الرئاسية رد فعل طبيعياً على استبعادهم التاريخي من مؤسسات الدولة. القصد أن الانقسام الثقافي والسياسي سواء كان دينياً – مدنياً، أو حداثياً طائفياً أو قبلياً سارع بإشعال نار الحرب الأهلية والتقسيم بعد إطاحة سلطة القذافي وعلي عبدالله صالح أو إضعاف سلطة بشار، بينما عرقل الانقسام والاستقطاب الثقافي التوافق بين فصائل ومكونات الانتفاضتين التونسية والمصرية. وفي كل الحالات نشطت التنظيمات الإرهابية الإسلاموية في سورية وتونس وليبيا ومصر والعراق واليمن كتجليات عنيفة لحالة الانقسام والاستقطاب المدني الإسلاموي. خامساً: مدخل الثورات الفاشلة. يفترض هذا المدخل أن الدول الخمس شهدت حراكاً ثورياً غير مسبوق نتيجة تراكم الاستبداد والتمييز وفشل الدولة، لكن هذا الحراك افتقر في كل دولة إلى شروط الثورات الناجحة، وأهمها التنظيم الثوري والأيديولوجية أو حتى الرؤية للتغيير، ولم تكن هناك برامج واضحة للتغيير، كما لم يتفق المشاركون في كل انتفاضة على قيادة فردية أو جماعية، وبالتالي فشل الحراك الشعبي بطابعه السلمي في تونس ومصر واليمن، أو طابعه العنيف في ليبيا وسورية في الحفاظ على زخمه والتعايش بين فصائله، والتحول إلى ثورة بمعنى تغيير النظام وإحداث تغييرات حقيقية في الثروة والسلطة ومؤسسات الدولة، فلم يتولّ الثوار الحكم في مصر وتونس واليمن، ودخلت سورية وليبيا في حالة الحرب الأهلية منذ بدايات الانتفاضة الشعبية، ووفق رؤية هذا المدخل فإن قوى الثورة المضادة في الدول الخمس وفي دول الجوار، تدخلت بصور مختلفة للحفاظ على مصالحها أو خوفاً من رياح التغيير والديموقراطية في المنطقة، ما عرقل المسار الثوري، وأعاد القوى القديمة إلى الحكم، ودعم أطراف الصراع والحرب الأهلية في ليبيا وسورية، ما جعل بقية الشعوب العربية تنظر بعين الرضا إلى حالها مقارنة بدول الانتفاضات الخمس، وإضافة إلى الأدوار السلبية لقوى الثورة المضادة فإن الولايات المتحدة والدول الغربية استعملت معايير مزدوجة في التعامل مع الانتفاضات الشعبية، ولم ترحب بها في تونس ومصر بينما شجعتها في ليبيا وسورية وتدخلت عسكرياً في الأولى وامتنعت عن ذلك في سورية كما لم تقدم الدعم الكافي للمعارضة. باستثناء التفسير الأول، فإنني على قناعة بأهمية التفسيرات الأربعة الأخيرة، والتي لا غنى عنها في تحليل مسار الانتفاضات العربية وتعثر اكتمالها كثورات لأسباب كثيرة أشرت إلى بعضها، وأضيف إليها ضعف القوى السياسية وهشاشة المجتمع المدني، وغياب ثقافة الديموقراطية، ومع ذلك فإن الانتخابات البرلمانية والرئاسية تصدرت جدول أعمال الانتفاضات في تونس ومصر، وبالتالي جاءت بقوى غير ديموقراطية توظف الدين في السياسة، وتفهم الديموقراطية على أنها وسيلة ذات اتجاه واحد – ولمرة واحدة - للوصول إلى الحكم، كما ترفض مشاركة القوى السياسية الأخرى وتهمّش المرأة والأقليات الدينية. إن سوء ممارسة الديموقراطية واقتصارها على نتائج الصندوق أضر كثيراً بالانتفاضتين المصرية والتونسية وحال دون تطورهما، على رغم أنهما الدولتان الأكثر اقتراباً من شروط ثورات التحول الديموقراطي مقارنة باليمن وليبيا وسورية. أخيراً، لعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل فشلت تماماً انتفاضات أو ثورات العرب، أم إنها تعثرت لأسباب مختلفة؟ وبالتالي فإن مؤشرات انهيار الدولة وسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى وتدمير المقومات الاقتصادية لثلاث دول، فضلاً عن العراق، ثم بروز دور جماعات الإرهاب الإسلاموي، وتعثر عملية الانتقال الديموقراطي في مصر وتونس. كل هذه المؤشرات تثبت فشلاً كاملاً لتلك الانتفاضات، أو تدل على تعثرها، وبالتالي فإنها تستكمل مساراً تاريخياً معقداً وطويلاً، لا بد أن يدفع فيه العرب كلفة اقتصادية وبشرية وأخلاقية، هذا المسار الكارثي يتشابه مع أوضاع أوروبا في القرن التاسع عشر على نحو ما طرح فوكاياما، حيث أمضت عقوداً عدة لإنجاز التحول الديموقراطي وقيام دولة المواطنة، وهو تشابه أتحفظ عنه شخصياً لأن التاريخ لا يكرر نفسه، وما أحوجنا كعرب أن نتعلم من دروس التاريخ حتى نتجنب كوارثه وتضحياته التي تبدو أحياناً بلا معنى! * كاتب مصري
مشاركة :