كل شيء تريد أن تسمعه بشكل جيد، تحتاج أن تُفككه بصورة بديعة، أن تبحث عن مصدر الأصوات كلها، تلك التي بدورها تبني تجربتك الشعورية الأخاذة عبر الذاكرة. في الأغنية الخليجية، أنت تنطلق من فضاء الحاجة إلى التعبير تاريخياً، وتصل إلى مرحلة البحث عن الجملة اللحنية في أوج التشكلات الجديدة للأغنية في ثمانينات القرن الماضي، وتسأل نفسك: لم نكن نسمع بالأذن فقط، كانت أجسادنا تستقبل الأغنية، وتمتصها كتلك الأخشاب المستخدمة في صنع الآلات الموسيقية أو قاعات الأوبرا العريقة، كنّا منفتحين راغبين بتلك الاستهلالات القادمة لتباغت مشاعرنا، هو ذاك الإحساس بالدهشة، أمام جمال تكرار الإنصات. إذاً هل فعلاً كنا وقتها نستمع للأغنية أم نُشكلها من خلالنا، ونحن بذلك ومتى ما عدنا إلى تلك الأغنيات، نعلن استغرابنا لحس التواطؤ المستمر بينها وبين ذاكرتنا، مطلقين حنيناً ضمنياً لا إلى الأغنية نفسها، بل إلى جذور التكوين لتجاربنا السمعية، نريد أن نعود مجدداً إلى ذواتنا بطريقة ما، وصوت الأغنية إحدى تلك الطرق اللانهائية. إنها محاولة أن نستمع لأنفسنا من جديد، في ظل استمرارية تساؤلنا حول كيف نستطيع فعل ذلك، ونحن في مواجهة الآن مع عوالم جديدة، غيرت شكل بنية الأغنية تماماً؟ إلا أن ما هو حقيقي، كما عبر عنه الشاعر الغنائي الهندي الشهير «كبير»: «لا يمكن رؤية جماله بالعين، لا يمكن للأذن أن تسمع ألحانه»، وهي تتقارب إلى ما أشار إليه الفنان والملحن البحريني خالد الشيخ وهو يتحدث عن لحظة اصطياد الجملة الموسيقية الجميلة، كمن يصطاد طيراً من السماء، واصفاً أن الأمر ليس مستحيلاً، ولكنه بالتأكيد صعب، مشيراً إلى «الوعي الموسيقي»، بقوله إن غياب «القصد» في الأغنية، يعطل ملامح الرقي فيها، وهو ما يجعلنا نتأمل سبب تفضيل الفنان السعودي القدير الراحل طلال مداح أن يكون لوحده في غرفته ويستلهم اللحن، إنها عملية بحث عن ما يُمكن إدراكه مع الذات، منذ ظهرت أغنيته الأولى، من كلمات أحمد صادق: «مشاعل بالحي .. يا قوم دلوني، أقصد ديار القوم .. امشي على جفوني»، والفنان طلال مداح ظاهرة متفردة، فالكل ينظر إلى ما يطلق عليه الموسيقيون بـ «الصوت المكتمل»، الذي يضفي المعنى والقصد، وهنا ليس الاحتكام للكلمة في الأغنية، رغم أهميتها، ولكن إبراز «القصد» من خلال اللحن والإيقاع والآلات الحيّة المستخدمة، وقبل الآلة الموسيقية أيضاً هناك الصوت العابر بكل تجلياته، القادر على البناء والخلق لعوالمنا داخل المشهدية الموسيقية. وصف الفنان القدير الراحل أبو بكر سالم الأغنية الخليجية بأنها «متآخية» كون مظاهرها الفنية تحمل تقارباً محسوساً سواء على المستوى اللغوي في الشعر الغنائي، أو الرتم الإيقاعي، ومعنى التأخي إذا صح التعبير، يقودنا إلى مستوى التأثير في بنية تشكل الذاكرة الموسيقية لدى شعوب الخليج، ومنها على سبيل المثال ما ذكره الشاعر والباحث السعودي أحمد الواصل، المتخصص في الأنثروبولوجيا الثقافية، عبر «إذاعة ثمانية» حول الأغنية الخليجية وتشكلاتها بين الكويت والسعودية، في فترة الستينات، عندما بدأت الكويت بأغنية بحسب تعبير الواصل، قطعت علاقتها بالتراث، ويفسر ذلك أنه عندما عاد المشتغلون بالفن في الكويت إلى الأسطوانات وجدوها جميعها لا تتكلم عن المتغيرات الاجتماعية في الستينيات كالمعمار الحديث، واستخدام السيارات والسفر، والتغير في أسلوب حياة الشباب في تلك الفترة، موضحاً أنه من هنا بدأت تظهر أغنيات فيها «حنين»، لما قبل التحولات الاجتماعية، من مثل «الله يا الدنيا ما كنا حبينا» بالمقابل هذا التحول أثر بطبيعته على السعودية، على مستوى التجربة الشعرية، فإذا كان هناك الشاعر فائق عبدالجليل في الكويت، ظهر الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن في السعودية، ما شكل مع الفنان الراحل طلال مداح والموسيقي السعودي سراج عمر، انقلاباً نوعياً في الأغنية الخليجية بالمملكة. ويرجح الباحث أحمد الواصل أن التحول للأغنية في السعودية، ألقى بظلاله على الكويت في الفترة التي بعدها، فأصبح في الكويت مرحلة جديدة للفنان عبدالرب إدريس، والفنان عبد الكريم عبد القادر، مشكلةً عملية للأخذ والرد والتماهي الفني.في ملاحظة مهمة أبداها الباحث أحمد الواصل أثناء حديثه، أن الرقابة الاجتماعية والدينية والإدارية، لم تعترض يوماً على الإيقاع والمقام، المشكلة دائماً بالنسبة لهم هي كلمات الأغنية. وبالنسبة لنا كمستمعين فهي لفتة مهمة جداً، فنحن ندرك أن الوعي الموسيقي مبني على ما تفعله الموسيقى على مستوى اللا واعي عبر الآلة الموسيقية، وما تقدمه الكلمة على المستوى الواعي للإنسان عبر الفكرة، ينتج فيها المستويان حالة من الشعور، وهنا نذكر موقف ذكره الفنان السعودي الجميل عبادي الجوهر، أنه عندما كان بعمر الـ 14 سنة، آتته فرصة ليعزف أمام الفنان طلال مداح، بعد أن أعجب بعزفه، طلب منه مداح أن يغني، وسأله ماذا تحفظ؟! قال عبادي الجوهر وقتها: «أنا حافظك»، يقصد أنه حافظ أغانيه كلها، وهو تعبير يجعلنا نتصور شمولية الوعي واللا واعي الموسيقي لدى الجوهر، التحول من مستمع إلى عازف ومشارك في التكوين الموسيقي ككل. في اللحظة التي تستمع لها إلى أغنية «في الجو غيم» للفنان محمد عبده، من ألحان يوسف المهنا، وكلمات فائق عبدالجليل: «قبل الوعد، جيت بدقايق، والتقينا بلهفة العاشق .. التقينا، وهامست العيون بتشاور علينا، شاغلتنا لاحقتنا»، يعود بك الوقت لقصيدة «سالفة صمتي» للشاعر فائق عبدالجليل، والتي كتبها بعد تجربة 10 سنوات عاشها بصمت: «يلاحقني الورق، تأخذني هموم الوقت من وقتي، اسكت والسكوت أنتِ، أحاول والحلول أنتِ، شسولفلك.. وأنت سالفة صمتي»، يهديك أبعاد الصمت، التي نحتاجها عندما نستمع لأنفسنا، فيها يقول عبدالجليل كذلك: «أضيع تحت المطر غابة، ارفضتني أصغر أعشابي»، ويتابع في مقطع ثاني: «أنا أول شجر، أغصانه ممنوعة. أنا أول شجر يشرب من دموعة». يخبرك المقطع الشعري، كيف أنك تحتاج للزمن مع كل شيء في محيطك من أجل أن تفهمه، والأغنية الخليجية في تكويناتها السابقة امتازت بالبحث عن الموضوعات، عكس ما تشهده المرحلة الحالية تماماً، فالموضوعات مقتصرة على حدود ضيقة، في مسائل الحب والخيانة، وأنت تود دائماً في عودتك إلى تلك الأغنيات ذات الموضوعات المتسعة، بأن تنصت لنفسك بشكل مختلف، أن تكسر حدة الضيق الحالي، وتحافظ على أفق ذائقتك الموسيقية، بشكل ما تبحث عن حرية في فعل الانصات نفسه، تريد من الحالة الموسيقية أن تحررك وتحررها. وفي هذا السياق، نذكر ما قالته الموسيقية والملحنة البريطانية إيفيلين غليني، من عاشت تجربة فقدان كامل تقريباً لسمعها بعمر الـ 12 سنة: «لقد وجدت مؤخراً أنه يجب أن أعطي القطعة الموسيقية وقتاً كافياً لكي أحكم عليها فربما الكيمياء بين نفسي وتلك القطعة الموسيقية تحديداً ليست صحيحة تماماً . لكن ذلك لا يعني أن لي الحق في القول إنها قطعة موسيقية سيئة» الوعي الموسيقي ربما تسأل نفسك عزيزي القارئ، ما الذي يعنيه الوعي الموسيقي، في شعور الحنين عبر ذاكرتك الموسيقية، هل هو أحد الأسباب التي تجعلك تعود إلى تلك الأغنيات؟ في أحد أحاديث الفنان الإماراتي الراحل جابر جاسم، يوضح كيف أنه عندما كان يغني أغانيه في الحفلات، كان الجمهور يضيف على الأغنية ويطورها، والتطوير هنا بأن الأغنية تأخذ منحنى في ظاهره عفوي ويُعتقد بأنه عشوائي، إلا أن مسألة الوعي الموسيقي، هي مهمة تشاركية، بين الفنان بكل تفاصيله والجمهور، لذلك شعور الاسترجاع للأغنية من قبلنا قادم من إحساسنا بأننا وهبنا جزءاً منّا فيها، تأخذ الأغنية مع الوقت هذا الجزء معها أينما ذهبت، لذا نحن في العمق، فإن حنيننا عادةً متصل بهذا الجزء الرهيف، ما يقودنا إلى مسألة مهمة، وهي الأسباب الجوهرية في تغير شكل الأغنية الخليجية، المرتبطة بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والإنسانية، والتي ساهمت بالطبع من انتقال الأغنية من اعتمادها الأساسي على «تراث» منطقة الخليج بمكوناته، إلى أغنية تقرأ حاضر المجتمعات ومستجداته. تجربة شعورية تدعونا الموسيقية إيفيلين غليني، أن نتحرر من الموسيقى التي لم تنسجم مع ذائقتنا الموسيقية، بعدم الحكم عليها. في عالم الأصوات، يجب أن تكون عندك القدرة على تمرير كل شيء من خلالك، فالحكم بطبيعته يقيدك بالقطعة الموسيقية غير الجيدة، وخيار التمرير يختلف عن خيار الإنصات الكلي للمقطوعة الموسيقية وللأغنية كذلك، وأشارت جليني أن هدفها الحقيقي في الحياة أن تدرس العالم بأن يسمع، عن طريق تقديم تجربة تساعد الناس في اكتشاف ذلك، ومنه ترى أنها تحتاج للزمن مع الآلة ومع الناس لتحقيق ذلك. ومن جليني ربما نتوصل في بحثنا هنا أن أي أغنية ليس بمقدورها أن تنقلنا إلى تجربة شعورية متكاملة مع الوقت والزمن، عبر تراكم سمعي نوعي، لن تستطيع الصمود، لأننا لا نعود إليها للبحث عن أنفسنا. أزمة وإحساس الملحن والفنان الكويتي يوسف الدوخي صور مرة أن أزمة الأغنية مرتبطة بإحساس الفنان وتطوره من الداخل، وأن الصوت الذي يصدره رنين آلة العود، لا يمكن مقارعته بالصوت المصنع من آلة «الاورج» أو ما يعرف بـ «الكيبورد»، ويبين كيف أن الآلة تطورت، ولكن الإنسان لم يتطور، ونستطيع كشف ذلك من خلال المساحة الصوتية للفنان، وأيضاً من الخلفية اللحنية للملحن. وهذا يجعلنا نتساءل مجدداً، العودة للأغنيات القديمة مصدره الفعلي ليس الذاكرة الشعورية فقط، وإنما ما تستطيع الآلات الموسيقية الحيّة والتكوينات الموسيقية مدروسة المعنى من قبل الفنان الواعي أن تقدمه، فهي قادرة على النمو والتفاعل عبر لحظتها التسجيلية، وهذا هو سرها، وهو منهج يبني الذائقة الموسيقية، ويتدرج من خلالها وعي المجتمع في كل مفاصل حياته، أنت لا تسمع الأغنية لأنها تعيدك إلى لحظة معينة، أنت تسمعها لأنها تحدث لك قفزة وعي. فكل تطور داخلي يمر به الفنان فهو بطبيعة الحال يعكس تطورك كمتلقٍ.
مشاركة :