ثمة روايتان متباينتان ومتنازعتان تتناولان طريق المفاوضات المسدود بين اليونان وشركائها في منطقة اليورو. وتذهب الأولى إلى أن اليونان على رأسها يساريون متطرفون شعبويون يبتزون منطقة اليورو، ويلوحون بتفجير مالي في منطقة اليورو. وتهديدهم هذا هو في مثابة التهديد بتفجير انتحاري. والرواية الثانية تقول أن اليونان يبتزها شركاء لا يرحمون، وشاغلهم الوحيد هو جعلها عبرة لمن يعتبر. ولا شك في أن الروايتين مبسطتان، ولكنهما مصيبتان إلى حد ما، وبعض عناصرهما في محله. وعلى رغم لغته المتبلدة والخشبية، يبدو أن ألكسيس تسيبراس مال إلى النضج السياسي في الأشهر القليلة الماضية، على خلاف غيره في الحزب الحاكم. فرئيس الوزراء اليوناني لا يخفاه ما هو على المحك ويدرك ما هي الخيارات المتاحة. ولكن كل الخيارات مريرة. وليس في الإمكان بعد اليوم المضي في سياسة المغامرة والرقص على حافة الهاوية. فأزمة افتقار حكومته إلى السيولة تلوح في الأفق، وهي مخيفة. فإذا عجز عن سداد رواتب العاملين في القطاع العام، انتهت مسيرته المهنية ومسيرة حزبه. ولا يستطيع السيد تسيبراس اللجوء إلى خيار «غريكزيت» (الخروج من اليورو) أو التلويح به في المفاوضات. فهو إذا فعل، فاقم سوء الأوضاع في اليونان في وقت يستورد البلد السلع الأساسية (الطاقة والأدوية) والغذائية. ونتائج الخروج من منطقة اليونان اقتصادية واجتماعية في آن. ويتوقع أن يطيح الاضطراب السياسي والنزاع المدني كل مكاسب تحسن التنافسية الاقتصادية. ولا يسع تسيبراس قبول اتفاق مساعدة مالية للحؤول دون إفلاس بلاده. فهذه الخطوة هي في مثابة إقرار بأنه كان على خطأ قبيل الانتخابات أو أنه كان انتهازياً. ومنحه اليونانيون تفويضاً لا لبس فيه: لا (سياسات) تقشف بعد اليوم، ولن يصدعوا باتفاق مساعدة مالية مهما كانت شروطه متساهلة ومخففة. ولكنّ شطراً راجحاً من اليونانيين لا يرغب في خسارة العضوية في منطقة اليورو. وفي وسع تسيبراس أن يأمن جانبهم. وحزب تسيبراس، «سيريزا» هو وراء المعضلة الأكبر. فعدد كبير من أبرز وزرائه يعادون التقدم (التكنولوجي) والانفتاح. وهؤلاء لم يجاروا متغيرات الزمن، ويعيشون في السبعينات ويحلمون بتحويل اليونان إلى خليط من كوبا وفنزويلا. ولا يدركون كيفية عمل نظام اقتصادي معولم. وهم عقائديون، وحلفاء لا يعتد بهم في الأزمات. ولا يستطيع رئيس الوزراء اليوناني التعويل عليهم وأن يثق بهم. فبعضهم يسعى إلى السلطة. ويتساءل المرء عن أسباب مفاوضة دول اليورو شريكاً لن يساوم، سواء كان مضطراً إلى عدم التفاوض أم اختار الموقف هذا. ووراء الموقف الأوروبي داعيان: الأول جغرافي- سياسي: فالاتحاد الأوروبي لا يرغب في إبعاد بلد يقع في خاصرته الجنوبية الشرقية. وثانيهما اقتصادي: وزراء المالية الأوروبيون يؤكدون اليوم أن نتائج انسحاب اليونان من اليورو لن تخرج عن عقال السيطرة. وعلى رغم هذا الكلام الخطابي، تلتزم أوروبا مبدأ الحذر، ولا تقدم على أمر غامض. وما أسوقه لا يدحض احتمال إبرام اتفاق. وثمة نتائج إيجابية وفوائد ترتجى إذا لم تلتزم بعض الخطوط الحمر (المحظورات) الضعيفة الصلة بالواقع. وتسعى الحكومة اليونانية إلى تجنب تجرع علقم إصلاحات بنيوية تشرع اقتصادها على السوق، ولا ترغب في إصلاح نظامها التقاعدي المتداعي. ولا شك في أن الاقتصاد اليوناني هو أكثر اقتصادات الاتحاد الأوروبي تقوقعاً وانغلاقاً. ولكن بعض الوزراء اليونانيين يرون أن اقتصاد بلادهم هو جنة نيوليبرالية. ومدعاة أسف أن الحكومة اليونانية تخشى الكلفة السياسية المترتبة على الإصلاحات، وتفاوض على ما ليس في مصالح شعبها على الأمد الطويل. وبعض دول منطقة اليورو نفد صبره، ويدعو إلى رفع قيمة الضرائب في اليونان وإرساء مزيد من الإصلاحات في قطاع العمل. ولكن الضرائب المرتفعة أحكمت الخناق على القطاع الخاص والطبقة الوسطى. وسوق العمل اليوناني اكتسب ليونة لم يعرفها من قبل، وتدنت كلفة العمل منذ 2009 تدنياً كبيراً إلى ما دون المعدل الأوروبي. ويعجز شركاء اليونان عن التعاطف مع آلام عامة اليونانيين الناجمة عن التقشف.
مشاركة :