فلسفة الصيام - عبد الجليل زيد المرهون

  • 6/19/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

قال تعالى في محكم كتابه المجيد: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة 185). هو سيد الشهور، كرّمه الله، وجعل أيامه ينبوع رحمة ومغفرة، فيه ليلة القدر، التي يُقدر الله فيها مصائر العباد. ففيها تُقدر الأعمار والأقوات وتعتق فيها الرقاب من النار. والشقي من حُرم رحمة الله في هذا الشهر الفضيل، الذي لو علم الناس مكانته وفضائله لتمنوا أن تكون كل أيامهم وشهورهم رمضان، كما ورد في مضمون الحديث الشريف. وشهر رمضان هو شهر الصيام، استجابة لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة 185). وفلسفة الصيام أكبر من أن يحيط بها البشر، مهما بلغوا من العلم. وقد جرى إجمالها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ( البقرة 183). والتقوى هنا عنوان عريض، يتسع لكم هائل من المعاني والمضامين، التي يصعب الإحاطة بمفرداتها. ويُمكن للمفسرين والعلماء تقديم الكثير من البيان، لكنهم سيتوقفون في نهاية المطاف عند الجزء لا الكل. وهذه هي عظمة هذا القرآن، وجمال بديعه، الذي تقف عند أبوابه العقول. ويُمكن للمرء أن يقف عند الكثير من العبر والحِكم التي في ضوئها شُرع الصيام. وهي تتصل بالدين والدنيا، وترتبط بالفرد والمجتمع، وتُعنى باللحظة وما بعدها. ولقد اعتاد العلماء والدعاة في كل عام أن يذكروا الناس بفلسفة الصيام وفوائده وفضائله. وهم بنشاطهم الميمون هذا مصداقاً لقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( آل عمران 104). وهناك الكثير من الكتابات والمؤلفات، التي كتبت حول فلسفة الصيام، من قبل علماء ودعاة، ومثقفين متنورين. وحري أيضاً أن نتذكر الرواد الأوائل من النخبة المؤمنة، من الأساتذة الجامعيين، وعلماء الطب والبيولوجيا والكيمياء، ممن حملوا على عاتقهم البحث في مفردات الصيام وفوائده، وقدموها للناس ليزدادوا إيماناً على إيمانهم. وهذا نوع عظيم من الدعوة إلى الله، وعمل صالح يوضع في ميزان حسناتهم. ولابد للأمة من تكريم هذه النخبة الطليعية الرائدة، سواء من هم هنا في داخل الخليج، أو في مصر وسورية والعراق، وغيرها من الأقطار. ولعل من صوّر هذا التكريم التذكير بهؤلاء الرواد، والإرشاد إلى كتاباتهم ومؤلفاتهم. وذلك أيضاً نوع من تكريم الأمة لذاتها. في هذه السطور، سنتناول الصيام بما هو نبع عظيم للتقوى. وتحديداً لجهة علاقته بحال الأمة، وما الذي يجب على المسلم عمله من وحي صيامه، وشهر الله المبارك الذي يعيش في ظلاله. نحن اليوم أمام نمط معقد من التحديات الاجتماعية والجيوسياسية التي تواجه الأمة، وتهدد قوامها، وفلسفة وجودها. وهذه التحديات، ليست جديدة في معظمها، لكنها تبدو متعاظمة من حيث شدتها، وقدرتها على الفتك بالأمة، وضرب هويتها، ورسالتها كأمة وسط اختارها الله بين الأمم. الإنسان في هذا الشهر الفضيل يعيش أجواء التقوى، ويتلمسها في محيطه، حيث تتلى آيات الله آناء الليل وأطراف النهار، وتزهر مجالس الذكر المبين، وتبدو أعمال البر ظاهرة، متجلية في ثنايا الحياة وجنباتها. علينا أن نجعل من منابر شهر رمضان منابر دعوة للصلاح، والابتعاد عن الغلو والتطرف، واجتناب كل ما من شأنه بث الفتنة والفرقة في الأمة والمجتمع. وعلينا أن نكون أمناء على الرسالة التي نحملها، وأن نقدم رضى الله على كل شيء، وألا نركن للهوى، ولا نتبع السبل فتبعدنا عن الصراط هذا هو ربيع القلوب. فيه يزداد المؤمنون إيماناً وخشوعاً، وتبتعد نفوسهم عن التعلق بحطام الدنيا وزخرفها. وكل يرجو من الله تجارة لا تبور، حيث لا شيء يعادل رضى الله، ولا شيء يعلو جنانه الخالدات. (والَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد 29). هذه أفضل اللحظات لعودة الإنسان إلى ذاته، والتأمل في أعماله، ووزنها بميزان التقوى، والتأكيد بعد ذلك على كل ما يرضي الله والتمسك به، والابتعاد عما يجلب غضبه وسخطه. وهذه إحدى تجليات الصيام في النفس البشرية. بل هي إحدى تجليات الدين عندما يتحوّل إلى فعل وعمل صالح. (وإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ( الإسراء 9). ومن تجليات تقوى المؤمن البر بأهله وأبناء مجتمعه، والسعي لقضاء حوائجهم، والإيثار بالنفس في سبيلهم. قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر 9). هذا هو فلاح الدنيا والآخرة. وهذا هو نهج الدين وصراط الله المستقيم. وكما البر بالناس والإيثار بالنفس لأجلهم، كذلك السعي للم شملهم، وإصلاح ذات بينهم، ففي ذلك صلاح الأمة بأسرها. قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الأنفال 1). ومن تجليات التقوى، التي بشر بها الله الصائمين، الحرص على وحدة الأمة، والعمل على تماسكها ورص صفوفها، لتغدو كالبنيان الواحد، القوي المتين. إن التأكيد على وحدة هذه الأمة يُمثل اليوم هدفاً سامياً لكل المؤمنين الذين هم من خشية ربهم مشفقون. إن الأمة الإسلامية أمة واحدة، بحكم وإرادة من الله سبحانه وتعالى، الذي قال في محكم كتابه المجيد: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون 52). إن المسلمين ليسوا أمتين أو مجموعة أمم، بل أمة واحدة بحكم الشرع، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. على الإنسان المسلم، وهو يعيش روحانية شهر رمضان ونوره، أن يسعى بالقول والفعل إلى وحدة المسلمين، ولم شملهم، والابتعاد عن كل ما من شأنه تفريق صفوفهم. إن المس بوحدة المسلمين وتمزيقهم يعتبر من الكبائر التي تجلب غضب الله وسخطه ونقمته، بل هو فساد في الأرض نهى الله عنه. وقد قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص77). ومن تجليات الحرص على وحدة الأمة الدعوة إلى نبذ العصبيات الجهوية والطائفية والعرقية، واعتبار التقوى المعيار الوحيد الذي في ضوئه يتم تفضيل إنسان على آخر. ولقد قال تعالى في محكم كتابه المجيد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات 13). في هذه الآية يقدم الإسلام نموذجاً عظيماً على مستوى رؤية الإنسان لأخيه الإنسان، فأمره بالتعارف، الذي يعني التعاون، ونهى عن تعريفه من زاوية اختلافه المناطقي أو العرقي، وجعل التقوى والعمل الصالح مقياس المفاضلة بين عباد الله. وما يُقال عن العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، يقال بدرجة أكبر عن العلاقة فيما بين المسلمين أنفسهم. لا مكان في الإسلام لتفضيل العباد استناداً إلى معايير الدنيا، أو اجتهادات تتخطى قول الله، وتتجاوز آياته المحكمة البينة. فهذا نوع من الغلو الذي نهى الخالق عنه. وهو خلاف منطق الاعتدال الذي هو سمة هذه الأمة، التي جعلها الله أمة وسطاً. إن علينا التمسك بوحدة هذه الأمة، وذلك هو شرط نهوضنا وصلاح ديننا ودنيانا. أما بث الفرقة بين المسلمين فهو من اتباع الهوى والركون إلى الغرائز الهائجة. وهذا ما لا يليق بالعاقل الوقوع فيه، فكيف إذا كان صاحب رسالة وقلم ودعوة إلى الخير. والخلاصة، هو شهر الله الفضيل، الذي تفتح فيه أبواب الجنان وتغل فيه الشياطين، وتضاعف فيه الأعمال، فحري بنا أن نستلهم دروسه وعبره، وأن نتسامى إلى حيث الباقيات الصالحات، وننهى النفس عن الهوى، الضار بالذات والأمة. علينا أن نجعل من منابر شهر رمضان منابر دعوة للصلاح، والابتعاد عن الغلو والتطرف، واجتناب كل ما من شأنه بث الفتنة والفرقة في الأمة والمجتمع. وعلينا أن نكون أمناء على الرسالة التي نحملها، وأن نقدم رضى الله على كل شيء، وألا نركن للهوى، ولا نتبع السبل فتبعدنا عن الصراط. وأن نتبع قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام 153).

مشاركة :