فلسفة العيد - عبد الجليل زيد المرهون

  • 7/10/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ما هي فلسفة العيد؟ ما هي مضامينه السيكولوجية والاجتماعية؟ ولماذا هو حيوي للأمة وتطلعاتها؟ العيد مناسبة دينية، عقائدية المنطلق، سوسيولوجية المضمون، وحدوية التجلي. والعيد، بهذا المعنى، يُمثل حاجة للفرد والمجتمع، بموازاة كونه نوعاً من الطاعة لله، وتعبيراً جماعياً عنها. والسؤال هو: لماذا شُرعت للمسلمين أعياد؟ هناك فلسفة متكاملة تقف خلف تشريع العيد، وجعله شعيرة ثابتة من شعائر المسلمين وطقوسهم. أولى أبعاد هذه الفلسفة، تتمثل في كون العيد نوعاً من الشكر على بلوغ نعمة الطاعة، بلوغ رمضان أو بلوغ حج بيت الله الحرام. بلوغ الفرد أو بلوغ الأمة على نحو الإجمال. وكما وصف القرآن الكريم سيدنا إبراهيم، عليه أفضل الصلاة والسلام:(شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(النحل 121). وحيث يقول المؤمنون في هذه المناسبة: "الحمد لله على ما هدانا، وله الشكر على ما أولانا". والشكر في أعياد المسلمين هو شكر بالعمل: بالصلاة والزكاة (أو الأضحية كما في الضحى). وكما جاء في قصة سيدنا داود، عليه أفضل الصلاة والسلام:(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سبا 13). إن الشكر بالعمل هو أعلى درجات الشكر. وبه تدوم النعم، وتزول النقم، وتُظلل الأرضُ ببركات السماء. وهناك شعيرتان رئيسيتان في العيد، هما: الزكاة والصلاة. تسبق الأولى الثانية، وتمثل رافعة لها، وعاملاً أساسياً من موجبات قبولها من لدن المولى عز وجل. والزكاة، في هذه المناسبة، كما في منظورها العام، تنهض بوظيفتين متكاملتين: الأولى ذات صلة بالفرد، والثانية ذات سياق اجتماعي. تتمثل الأولى في تطهير النفس وتزكيتها، كما في قوله تعالى:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة 103). وتتجسد الثانية في ترسيخ مبدأ التكافل الاجتماعي، كما في قوله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج 24-25) الشعيرة الثانية من شعائر العيد هي الصلاة. تُمثل صلاة العيد محطة رئيسية في اجتماع المسلمين، وعاملاً من عوامل لم شملهم، وتعزيز رابطة الأخوة بينهم. وذلك بموازاة كونها شكراً وامتناناً لله سبحانه وتعالى على توفيقه بلوغ رمضان (كما حج البيت العتيق). ولهذه الصلاة المباركة الكثير من السنن الواردة في الأحاديث الشريفة، التي تؤكد على مضامينها الاجتماعية والعبادية البالغة والعظيمة الشأن. البعد الثاني في فلسفة العيد يتمثل في كونه أداة توحيد للأمة، على مستوى الشعور المشترك بعظمة اللحظة، وعبقريتها واستثنائيتها، وعظيم مجدها. إن العيد فرصة عظيمة لتذكير الأمة بعوامل نهضتها وشروط منعتها وتقدمها، وأخذها المكان الذي يليق بها في هذا العالم.إنه مناسبة مباركة، حريّ بكل المسلمين التأكيد على معانيها السامية، كونها جزءاً من دينهم الحنيف. والأمة التي تحرص على مناسكها أمة لا تموت إنه اليوم الذي يتجدد فيه إدراك المسلم بوحدة أمته، ويتعزز فيه الشعور برابطة الأخوة الإسلامية الحقة، التي لا انفصام لها. وفي ذلك تجسيد لقول مولانا سبحانه تعالى:(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء 92). ومن شرق الأرض إلى غربها، يهتف المسلمون بنداء واحد، ودعاء واحد، متجهين إلى رب واحد أحد. إننا هنا بصدد حالة فريدة متميزة، يندمج بُعدها المادي ببُعدها الروحي، لتولد تواصلاً خلاقاً بين المسلمين، فائقاً ومرهفاً، يتجاوز حدود الجغرافيا والأعراق، وشتى الحواجز والحدود. وفي ذلك حياة للأمة، ونعمة وقوام. وهو تجسيد لقوله تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال 24) . إن مشهد العيد المجيد يقدم دليلاً حسياً آخر على أن الأمة الإسلامية ليست أمة افتراضية، بل أمة حقيقية، عبقرية التكوين خالدة العقيدة، لا نظير لمجدها ورفعة مُثلها. أمة وسط جعلها الله شاهدة على الأمم. البعد الثالث في فلسفة العيد، يتمثل في كونه مناسبة لزرع الأمل، وتجديد الذات، أي تجديد مكنونها. زرع الأمل بعام جديد، بعد أن وفق الله الإنسان لبلوغ شهر رمضان، أو بلوغه (أو بلوغ المسلمين عامة) حج بيت الله الحرام. وهذا ليس بالعام الفلكي، بل عام في أفق الزمن الروحي للأمة. ومن هنا، يُمثل العيد بالنسبة للإنسان المسلم نقطة انطلاق نحو مسار جديد، يرجو من الله تعالى أن يجعله مساراً خيّراً مباركاً، متوّجاً بالعمل الصالح، وإنجاز ما فيه صلاح الدنيا وثواب الآخرة. وهذا تحديداً، هو أحد أسباب تسمية العيد بالعيد، لناحية المدلول اللغوي العام. إنها مناسبة لتجديد الذات، تجديد مكونها الروحي، لتبدو أكثر عزيمة وقوة وإرادة، وتطلّعاً نحو الأفق الرحب، في عمق الزمن الآتي. إن الإنسان المسلم، في هذا اليوم الميمون، يلبس حلة زاهية من المشاعر الإيمانية المتدفقة، التي تجعله أكثر ثقة بالذات وبالمستقبل، فالله تعالى الذي منّ عليه، وعلى الأمة، بلوغ الطاعة وتأديتها، قادر بدوام منّه واحسانه الكبير أن يبدل حاله إلى ما هو أكثر إشراقاً، وأن يحقق له سؤله ورغبته في خيري الدنيا والآخرة. وعلى كل مؤمن متوكل أن يثق بهذه الحقيقة، فهذه إرادة الله البالغة، وسنته التي لا تبديل لها في خلقه. وقد قال جل جلاله في محكم كتابه المجيد: (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(فاطر 2-3). وقال سبحانه وتعالى:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر 53). البعد الرابع في فلسفة العيد يتمثل في إدخال السرور في نفس المؤمن. وهذا البُعد مرتبط في خلفياته بالأبعاد سابقة الذكر، كما أنه لصيق بفلسفة زرع الأمل. وفي الأصل، فإن إدخال السرور في نفوس الناس مبدأ ديني أصيل، حرص الإسلام الحنيف كثيراً على التأكيد عليه. ووردت بشأنه العديد من الأحاديث الشريفة. ولتعزيز مبدأ إدخال المسرة في النفوس، جاءت الكثير من السنن المستحبة في يوم العيد. وهي سنن حرص المسلمون، ولا يزالون، على الأخذ بها، وقد أضحت لصيقة بمصطلح العيد ذاته. ومن بين أمور عديدة، كان الحرص على لبس الجديد من الثياب، متى كان ذلك ممكناً ومتاحاً. وفي هذا السياق، تم التأكيد على "كسوة العيد"، لتعم المسرة عامة المسلمين، وكيلا يشعر أحد منهم أنه مستثنى من البهجة في يوم هو يومه أيضاً. ومن الضروري هنا التأكيد على أهمية البحث عن كل من يحتاج للمساعدة، حتى يحل يوم العيد، وكل الناس قد استعدت له، بما هو شائع ومتعارف، وإن في حدود دنيا. ولعل من المناسب إيصال كسوة العيد للفقراء والمحتاجين قبل عشرة أيام أو أسبوع من يوم العيد، ليشعروا بروح المناسبة، وبدفء المجتمع وتكافله. وفي ذلك مثوبة من الله وأجر عظيم. ولقد قال الله سبحانه تعالى في محكم كتابه المجيد:(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(البقرة 245). في الطريق إلى العيد ثمة حاجة لأن تكفكف الأمة دمعة اليتيم، وتُؤوي المشرد والطريد، وتطعم الجائع، وتكسو العريان. وليكون العيد عيد أمة محمد جمعاء. كما هو في الأصل والمبدأ والفلسفة الأولى. وفي رحاب العيد أيضاً، حري بالأمة التأكيد على تماسكها، ووحدة بنيانها. ونبذ منطق الفتنة والفرقة، والتشرذم الطائفي، لأن ذلك من موجبات الهلاك والضلال، والخروج عن الصراط المستقيم. إن العيد قد شُرع لأمة واحدة، فلتكن واحدة مؤتلفة في عيدها وفي تطلعها نحو غدها الجميل. نحو مجدها الكبير الذي وعدت به. إن العيد فرصة عظيمة لتذكير الأمة بعوامل نهضتها وشروط منعتها وتقدمها، وأخذها المكان الذي يليق بها في هذا العالم. إنه مناسبة مباركة، حريّ بكل المسلمين التأكيد على معانيها السامية، كونها جزءاً من دينهم الحنيف. والأمة التي تحرص على مناسكها أمة لا تموت.

مشاركة :