إيجابيات وسلبيات شتى ينطوي عليها ذلك التراجع الصادم الذي مني به حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة من 49.9 في المئة من الأصوات، أي بواقع 327 مقعداً في الانتخابات السابقة التي أجريت عام 2011، إلى 41 في المئة هذه المرة بواقع 259 مقعداً من أصل 550، ليخسر بذلك الغالبية المطلقة التي يتمتع بها منذ 13 عاماً، ما يفرض عليه التحالف مع إحدى القوى البرلمانية المعارضة لتأليف حكومة جديدة. أما الإيجابيات، فيتمثل أبرزها في إنقاذ التجربة الديموقراطية التركية، التي ما برحت تسعى إلى ترسيخ دعائمها، من انتكاسة جديدة محققة، كانت ستعصف بها لو نجح حزب العدالة في انتزاع أكثرية برلمانية كاسحة بواقع 367 مقعداً بما يخوله تأليف الحكومة منفرداً للمرة الرابعة على التوالي، فضلاً عن تمرير دستور جديد أو تعديلات دستورية تتيح للرئيس رجب طيب أردوغان تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي على نحو يطلق يده في الحكم ويمكّنه من احتكار صلاحيات وسلطات واسعة تجعل منه ديكتاتوراً يحكم قبضته على كل مفاصل السلطة في البلاد بلا منازع، مزهواً بتنفيذ مشروعه الخاص بتدشين «تركيا الجديدة» الذي ينوي الانتهاء منه عام 2023. وبكلمات أخرى، يمكن القول إن نتائج الانتخابات من شأنها أن تكبح جماح الشطط الذي ألمَّ بسياسات أردوغان وحزب العدالة على الصعيدين الداخلي والخارجي خلال السنوات الأخيرة. وبالتوازي، حملت نتائج الانتخابات مؤشرات إلى استعداد التجربة الديموقراطية التركية لتجديد ذاتها من خلال عملية حراك سياسي جنينية لكنها موحية، بعدما عمد الناخبون إلى العمل من أجل إنهاء حالة القطبية الحزبية والسياسية الأحادية، إذ جاء رهانهم على الأحزاب الصغيرة بدلاً من الأحزاب الكبرى. فإلى جانب تراجع رصيد حزب العدالة من 327 إلى 259 مقعداً، تراجعت حظوظ المعارضة الكمالية، ممثلة بحزب الشعب الجمهوري، الذي لم يتخط نسبة الـ 24 في المئة من الأصوات بواقع 138 مقعداً في 2011 مقابل 132 مقعداً هذه المرة. وقد آل هذا النزف من المقاعد إلى حزبَي الشعوب الديموقراطي والحركة القومية، فقفزت حصيلة الأخير إلى 82 نائباً في مقابل 50 فقط عام 2011، مثلما نجح الأول في تجاوز العتبة الانتخابية ورفع مقاعده من 29 إلى 78 مقعداً، وهو ما يعتبر تقدماً لافتاً لليمين التركي المتطرف. كذلك، فتحت هذا الانتخابات، التي بلغت نسبة الاقتراع فيها نحو 85 في المئة في الداخل التركي، ونحو 30 في المئة في الخارج، الباب أمام الأحزاب التي تمثل الأقليات كحزب الشعوب الديموقراطي الكردي لتجاوز أطره الإثنية الضيقة والانخراط في العملية السياسية الديموقراطية برداء وطني، بعدما اضطر إلى «تتريك» خطابه ومشاريعه الانتخابية، وضم إلى صفوفه مرشحين يساريين من خارج الأطر الكردية، إضافة إلى فئات مهمشة من أرمن ومثليين وإسلاميين وأشوريين وســـريان وشيـــــوعيين، حتى أن ناخبين موالين لأحزاب أخرى أبرزها حزب الشعب الجمهوري آثروا منح أصواتهم هذه المرة للحزب الكردي بغية مساعدته على تجاوز العتبة الانتخابية نكاية في حزب العدالة وحسماً من رصيده. ومن ثم، تمكن حزب الشعوب من تخطي حاجز العتبة الانتخابية (10 في المئة) بعدما اقتنص 13.5 في المئة من الأصوات، ليكون الحزب الرابع في البرلمان للمرة الأولى ممثلاً بـ 78 نائباً، بعد أن كان لديه 29 مقعداً فقـــط في البرلمان المنتهية ولايته، كانت كوادره تحصلت عليها عبر الترشح كمستقلين للالتفاف على العتبة الإلزامية. تعقيد المشهد أما السلبيات، فتجلى أهمها في تعقيد المشهد السياسي والعودة به إلى حقبة الحكومات الائتلافية غير المتناغمة وغير المستقرة، والتي لا تلقى ترحيباً من غالبية الأتراك بســـبب تجاربهم المريرة معها طوال عقود سبقت العام 2002، إذ يرون أنها تفتقد القدرة على الاستقرار والاستمرار، وذلك بعكس الحكومات المنفردة التي تشكلت في عهود عدنان مندريس والحزب الديموقراطي في خمسينات القرن الماضى، ثم تورغوت أوزال وحزب الوطن الأم في تسعينات القرن ذاته، وصولاً إلى أردوغان وحزب العدالة والتنمية طوال السنوات الثلاث عشرة الأخيرة. من هنا يجدر السؤال من سيؤلف الحكومة الجديدة وكيف؟ لا سيما بعدما أعلنت الأحزاب الممثلة في البرلمان الجديد، باستثناء حزب الحركة القومية، رفضها الدخول في ائتلاف حكومي مع حزب العدالة. ففيما أعلن كل من زعيم الحزب الكردي صلاح الدين ديمرطاش، وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليشدار أوغلو، أن حزبيهما لن يشاركا حزب العدالة والتنمية في حكومة ائتلافية، لم ينف أوكتاي فورال نائب رئيس حزب الحركة القومية إمكان قبول الائتلاف مع حزب العدالة، إذ ترك الباب موارباً حين أعلن أنه من السابق لأوانه القول ما إذا كان الحزب سيبحث في المشاركة في حكومة ائتلافية مع الحزب الحاكم. وتشكل الخلافات الجوهرية بين حزب العدالة والأحزاب الثلاثة في شأن قضايا استراتيجية محورية تتصل بالسياستين الداخلية والخارجية لتركيا تحدياً أمام تلاقي الأحزاب الأربعة في حكومة ائتلافية. ففيما يتصل بقضية النظام الرئاسي على سبيل المثال، تتفق غالبية الأحزاب التركية على ضرورة صوغ دستور ديموقراطي مدني ليبرالي جديد يحل محل الدستور الحالي الذي وضعه العسكر عام 1982 وطاولته عشرات التعديلات، لكن تلك الأحزاب تتفق في الوقت ذاته على رفض تحويل نظام الحكم البرلماني إلى نظام رئاسي. إذ اعتبر زعيم حزب الشعوب صلاح الدين ديمرطاش أن نتيجة الانتخابات البرلمانية الأخيرة وضعت حداً للنقاش بخصوص النظام الرئاسي، كما رأى رئيس حزب الشعب الجمهوري مراد كارايالجين أن نتائج الانتخابات تعبر عن رفض واضح من الناخبين لمسعى أردوغان لنيل صلاحيات واســعة والتحول باتجاه نظام رئاسي تنفيذي. وترفض الأحزاب ذاتها عملية السلام التي دشنها حزب العدالة مع حزب العمال الكردستاني وأطّرها باتفاق وقف العنف في العام 2013. ولا تتفق هذه الأحزاب أيضاً ونهج حزب العدالة على صعيد السياسة الخارجية التركية، خصوصاً في التعامل مع ما يجري في سورية ومصر. وكما هو معلوم، ليس من المتوقع أن يقدم حزب العدالة تنازلات مرضية أو مغرية لتلك الأحزاب في ما يتصل بمواقفه من تلك القضايا أو غيرها، حفاظاً على صدقيته لدى مؤيديه من جهة، وتلافياً لأي تداعيات سلبية أو ارتباكات محتملة نتيجة أي تحول مفاجئ من جهة أخرى. وانطلاقاً مما ذكر آنفاً، يلوح في الأفق احتمال دعوة الرئيس التركي إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة بموجب حق تخوله إياه المادة 116 من الدستور، خصوصاً إذا ما حال استمرار أجواء الانسداد السياسي دون تأليف حكومة ائتلافية في غضون 45 يوماً من تاريخ الإعلان الرسمي لنتائج الانتخابات. فبينما يرفض حزبا الشعب الجمهوري والشعوب الديموقراطي المشاركة في تلك الحكومة، سيتردد حزب العدالة في مشاركة حزب الحركة القومية، لما قد يتمخض عن ذلك من أعباء في ما يخص تسوية المسألة الكردية، فضلاً عن تواضع شعبية الحزب القومي داخلياً وخارجياً. وفي المقابل يصعب على أحزاب المعارضة البرلمانية تأليف حكومة ائتلافية متماسكة وناجعة من دون حزب العدالة. وهنالك، يبقى السؤال هل بمقدور الانتخابات المبكرة المحتملة حل المعضلة السياسية المترتبة على التراجع الانتخابي لحزب العدالة، خصوصاً إذا أجريت في الظروف التي ظللت الانتخابات الحالية. وهنا تبرز المخاوف من أن تفضي حالة الارتباك السياسي الناجمة عن فشل حزب العدالة في تأليف الحكومة منفرداً هذه المرة وعودة البلاد إلى عهود الحكومات الائتلافية غير المستقرة، إلى انبعاث الدور السياسي التدخلي للجيش بذريعة حماية البلاد من السقوط في براثن الفوصى أو المكايدات السياسية، خصوصاً مع اشتداد وطأة الاضطرابات التي تلقي بظلالها على المنطقة منذ سنوات.
مشاركة :