لا يمكننا التغافل ونحن نعيش خلال هذه الفترة ظروفًا استثنائية بالغةَ التعقيد، في ظل المتغيرات الجديدة للفيروس الذي ألقى بظلاله السلبية على المسارات الاقتصادية والمالية، ونحن نرى أيضًا مدى الإرباك الحاصل أمام صُناع القرار السياسيين والاقتصاديين في دول العالم قاطبة، ومن هنا يأتي السؤال المطروح: لماذا الحديث عن الموضوع الآن؟، وأود الإشارة هنا إلى متابعتي الدقيقة خلال فترة الحجر المنزلي للتقارير الاقتصادية المرتبطة بالأزمة الصحية العالمية، خاصة الصادرة عن "صندوق النقد الدولي"، و"مجموعة البنك الدولي"، وغيرهما من المؤسسات المالية المتُخصصة، ولاحظت خلال ذلك وجود قاسم مشترك بينهم جميعًا في تحميل الفيروس المسؤولية شبه الكاملة للتعثرات الاقتصادية المصاحبة للأزمة، متغافلين عن الحرب التجارية وارتفاع الدين العام. ومع التسليم "الجزئي" لبعض ما ورد في متون التقارير السابقة، إلا أن هناك نقطة اختلاف جوهرية معهم، وهو أن الفيروس كان أحد العوامل المساهمة في التراجع الاقتصادي وليس العامل الوحيد، ودونكم المؤشرات الاقتصادية الدولية والإقليمية، وارتفاع حجم الدين العام، لذا لا يمكننا تحميل "كورونا" المسؤولية الكاملة، لكنه برأيي الشخصي "القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد"، وما يدعم هذه الرؤية التقرير الصادر حديثًا (15 أبريل 2020) عن إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في "صندوق النقد الدولي" بعنوان "مستجدات آفاق الاقتصاد الإقليمي"، وهو تقرير مهم يقع في 29 صفحة وأهم ما ورد فيه: • تسجيل المنطقة في 2020 انكماشًا اقتصاديًا بعد خفض توقعات النمو إلى أكثر من 4 نقاط مئوية، وهو ما يعادل استبعاد 425 مليار دولار من الناتج الكلي للمنطقة، وهو أعلى من التعديلات المسجلة أثناء الأزمة المالية العالمية (2008 وصدمة أسعار النفط 2015). • الهبوط الاقتصادي للدول الهشة والمتأثرة بالصراعات، لاسيما في ظل ضعف بنيتها التحتية الصحية. • تعرض البلدان المصدرة للنفط لصدمة مزدوجة يتزامن فيها انخفاض الطلب العالمي وأسعار النفط، ما يعني تراجع صادراتها بأكثر من 250 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتحول أرصدة المالية العامة إلى السالب، متجاوزة 10% من إجمالي الناتج المحلي في معظمها. • تأثر البلدان المستوردة للنفط سلبًا بالتراجع الكبير في تحويلات العاملين في الخارج وتدفقات الاستثمارات ورؤوس الأموال من البلدان المصدرة للنفط، ومع التدهور الكبير في عجز ماليتها العامة جراء انخفاض النمو على الإيرادات الضريبية وارتفاع الإنفاق، فمن المتوقع ارتفاع مستوى الدين العام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان إلى نحو 95% من إجمالي الناتج المحلي. ما يؤكده التقرير ازدياد مواطن الضعف المرتفعة والناجمة عن زيادة الدين العام والدين الخارجي في العديد من البلدان، حيث تشكل الديون الكبيرة التي تستحق آجالها قريبًا مخاطر على التمويل في ظل الظروف الحالية للأسواق، لذا نتساءل: هل سنرى كسادا هو توأم للكساد الكبير الذي حدث في ثلاثينيات القرن العشرين؟، عندما باع متداولو سوق البورصة الأميركية في يوم واحد (24 أكتوبر 1929) 12.9 مليون سهم، ما أدى إلى تراجع قيمة الأسهم إلى 23% ثم بدأ يفقد السوق قيمته تدريجيًا حتى وصل إلى فقد 91% من قيمته، وصاحب ذلك ارتفاع للبطالة، وانخفاض للأجور، وفقدان الملايين لوظائفهم، خاصة بعد تدويل الأزمة، مما عمق آثار الكساد العالمي واستمرارها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، وكان تأثيرها مدمرًا على الدول الفقيرة والغنية، بسبب انخفاض معدل التجارة العالمية بين النصف والثلثين، وتراجع متوسط الدخل الفردي والعائدات، ولمعالجة تلك الآثار تم الاعتماد على ساعة الزمن (أي ترك الأمور للزمن) ما أسهم في امتدادها 15 عامًا تقريبًا!! لكن الأمر قد يكون مختلفًا الآن أو في العصر الحديث، لكون المتغيرات أفضل بكثير من ظروف الكساد الأول؛ بسبب تطور الحلول الاقتصادية، والاعتماد على التكنولوجيا المتقدمة، في تسيير أمور الحياة، وهو ما سيسهم بمشيئة الله في عدم إطالة مدة الكساد التي ستتراوح في تقديري ما بين عامين إلى 4 أعوام كحد أقصى، لكن هناك دولًا بحسب صندوق النقد الدولي ستتكيف مع الأزمة – من بينها السعودية - التي استطاعت تخفيف أعباء الصدمة داخليًا لتمتعها باحتياطات نقدية ضخمة، واتخاذها حزمة تدابير اقتصادية عاجلة، واعتمادها على تشابك قطاعاتها الاقتصادية المتنوعة، وهو ما سيجعل تخطيها للأزمة سريعًا مقارنة بغيرها من الدول الأخرى في المنطقة. في الأخير علينا أن نعترف بأن أزمة "كورونا" قد زادت الطين بلة، ووضعت عدة أسئلة من المهم الإجابة عنها من صناع القرار والمتخصصين وهي: هل ستعود منطقة الشرق الأوسط للواجهة الاقتصادية من جديد، بفضل ثرواتها الطبيعية وموقعها الجيوسياسي الحيوي؟ وهل سيعيد النظام العالمي المالي هيكلته ليتواءم مع المتغيرات الجديدة؟ فاقتصاد ما بعد "كورونا" لن يكون كما قبله.. دمتم في حفظ الله.
مشاركة :