المثقّف وانتصار العقل الخلّاق

  • 4/23/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ينهض المثقف في المجتمعات المتقدمة كواجهة حقيقية للتجديد وتخطي العقبات وفتح السبل المغلقة، والبحث أيضًا عن الفكر الذي يدفع بالبشرية إلى الأمام، وليس الذي يضعها في حالة الثبات والموت البطيء.. وكما في كل التجارب البشرية الصعبة التي لا يشذ العالم العربي عنها، لا تتقدم إلا بصيانة الدين وحمايته من التلاعبات السياسية ووضعه في مكانه الإنساني الفردي، وخارج الرهانات السياسية والسلطوية التي هي في النهاية بشرية.. الدين كقيمة متعالية يجب أن يظل خارج الحيل البشرية.. لماذا تذهب الشعوب الإسلامية، والعربية بالخصوص، نحو اللعبة السياسية التي تستعمل الدين، وتنسى أن خلاصها الحقيقي في العلم والخيارات العقلانية؟ لا أعتقد أن المسألة صعبة.. ويمكن الإجابة عنها بسهولة في سياقات الحاضر، بالرجوع إلى الأمم التي سبقت العالم العربي في مواجهاتها وهي تنتصر للعقل على حساب كنيسة دمرت كل سبل التنوير والمعرفة.. فخدمة الدين في النهاية هي حمايته من الوقوع بين أيدي تجعل منه وسيلتها لتدمير كل البنيات التطورية. عندما تم اكتشاف قوانين الجاذبية، وحركة دوران الأرض، والرياضيات، كانت هذه المعارف تصطدم بالعقل المغيب الذي تبنته الكنيسة التي كانت ترى أن الأرض منبسطة، وثابتة، وأنها مركز الكون، وقوانين الجاذبية وتفسير الظواهر علميًا والتحكم في الكثير منها، بدأت الصراعات والنقاشات لمقاومة كنيسة منغلقة على نفسها ومعارفها، وعوضت الدين كعبادة وجيرته لأهدافها المرتبطة بالسلطة والهيمنة.. تبع ذلك نوع من الاضطهاد الديني ضد العلماء وتسيد الظلامية، نيوتن، كوبيرنك، غاليليو وغيرهم.. العقل المضطهد والمنتج للفكر هو الذي صنع التنوير ونمطًا آخر من الحكامة انتهى إلى تطوير مفاهيم الديمقراطية، مع إعلان استقلال الولايات المتحدة واندلاع الثورة الفرنسية. سيقول قائل إن التنوير الأوروبي جاء على أنقاض سواد القرون الوسطى، وهي نفسها عصر التنوير العربي.. الكلام صحيح إلى حد كبير لكنه لا يكفي.. عصر التنوير العربي تم تدميره أولا في عصره بمحاربة جميع التنويريين على مختلف الحقب، من طرف الحكام الذين رأوا في التنويريين من أبن رشد إلى ابن خلدون، وابن طفيل، والغزالي، والفارابي، وغيرهم خطرًا على المجتمع وعليهم .. قبل أن تأتي الفترة العثمانية التي أجهزت على الفكر العربي بعقلها الانكشاري الذي عاش على العنف والترهيب والنهب.. وتنهي المهمة الحقبة الاستعمارية الأوربية التي عاش الإنسان العربي فيها برتبة أقل من رتبة الحيوان. يجب ألاّ نخطئ ونستسهل الأمور.. إن التنوير الأوربي لم يأت هكذا كزيت فوق الماء، غير قابل للاختلاط، ولكنه جاء كثمرة لتطور حدث في الواقع.. فقد كان التنوير نتيجة، محصلة لتجارب مسبقة.. كان مساحة لاختبارات معرفية كثيرة اخترقت أزمنة متتالية، وتجسدًا لجهود كبيرة وتضحيات أكبر، من أجل انتصار العقل.. فقد كانت فلسفة الأنوار قاعدة حقيقية للتحولات التي حصلت لاحقًا، في النصف الثاني، من القرن السابع عشر الميلادي، عصر الفلاسفة من أمثال سبينوزا، لوك، بايلي، نيوتن، قبل أن يتطور هذا الفكر الحر في أوروبا كلها، ويجتاحها كليًا، مستفيدة من منجزه العقلاني بقوة، فتغيرت النظرة للعالم، ليصبح قرن الأنوار لحظة إنسانية لا يمكن القفز عليها.. ولكن في الوقت نفسه هي ثمرة حية للتجربة الأوروبية.. نقلها إلى عالم فكري وحضاري آخر، يحتاج بالضرورة إلى اشتغال حقيقي، واجتهادات تضمن استمرارها وانسجامها مع النسيج الفكري والثقافي، دون أن يعني ذلك تنازلا لتسيد دكتاتورية الجهل.. حركات التجديد الأوربية بنت مشروعاتها على تجاربها الحية وممارساتها الفكرية والثقافية.. ولهذا تبقى للأنوار خصوصية أوربية قبل انتقالها داخل أوربا والعالم.. وهي، كما ذكرت آنفًا مرتبطة بسياق سياسي وثقافي من تطور الأفكار وتعمقها، تلك الموروثة عن عصر النهضة الذي مهد الأرضية لفكر الأنوار واتساعه وشيوعه.. المحصلة هي أنه على الصعيد العلمي والفلسفي، شهدت حقبة الأنوار انتصارًا نهائيًا للعقل على المطلق اليقيني، وانتصار البورجوازية على النبالة والكنيسة، مما مهد الطريق نحو الحداثة والعصرنة.

مشاركة :