في مايو «أيار» عام 1902، تفشت إحدى موجات وباء الكوليرا في العالم، وأدوت بحياة نحو مليون شخص في دول شرق آسيا، وخاصة الهند والفلبين. وحمل الحجاج الهنود المرض إلى الأراضي الحجازية، فانتشر بشكل وبائي خلال موسم الحج في ذلك العام. آنذاك، عاد عمدة قرية «موشا» التابعة لمحافظة أسيوط بصعيد مصر من رحلة أداء الفريضة، حاملا معه 10 صفائح من ماء زمزم. ومر العمدة وما معه عبر «الحجر الصحي» في سيناء، دون أن يفطن الأطباء إلى أن صفائح المياه تحتوي على الميكروب القاتل. وحين عاد العمدة إلى قريته جاءته وفود المهنئين بالرحلة المباركة. وكلما أتى فوج أعطاه الرجل الكريم قدراً من ماء زمزم، لكي يسكبه الناس في آبارهم تبركاً به. وما هي إلا أيام قلائل حتى اجتاح وباء الكوليرا القرية وقتل المئات من أهلها، فضربت الأجهزة الحكومية حصاراً حول المنطقة، وفرضت الحجر الصحي، ومنعت الدخول أو الخروج منها نهائياً. وهُرعت الأجهزة الحكومية إلى المكان الموبوء، وبصحبتها خبراء طب بريطانيين واستراليين ممن سبق لهم العمل بمكافحة الكوليرا في الهند، فضلا عن مئات الأطباء والممرضين المصريين الذين لم يكن لدى أي منهم سابقة خبرة بهذا الوباء. ولمّا لم يكن عدد الأطباء في مصر آنذاك كافياً لمكافحة هذه الجائحة، فقد جنّدت الحكومة طلبة «مدرسة الطب» في مستشفى قصر العيني، الذين قطعوا شوطاً بعيداً في الدراسة، لكي يُسهموا مع الأطباء في هذا الكفاح ضد الوباء. وكان من بين هؤلاء الطالب بالسنة النهائية نجيب محفوظ (1882- 1974)، الذي كان يبلغ من العمر 20 سنة وقتها، ورائد علم أمراض النساء والولادة فيما بعد. «تلميذ» يفوق الخبراء «إذا لم تكن قد أعطيت الناس نفسك.. فأنت لم تعطهم شيئاً»! بهذا القول المأثور، بدأ الدكتور محفوظ مذكراته المعنّونة «حياة طبيب»، والتي حكى فيها - ضمن ما حكى- قصة الوباء الذي ضرب مصر في مطلع صيف عام 1902، وقتل أكثر من 34 ألف شخص، قبل أن يتم القضاء عليه في نهاية ديسمبر «كانون الأول» من العام نفسه، بعد كفاح مرير استمر نحو 7 أشهر، بسبب انتقال الجائحة من أسيوط إلى حلوان، ثم الإسكندرية. يقول طه حسين في تقديمه للمذكرات: «حين بلغ محفوظ آخر الدراسة في مدرسة الطب وقارب الامتحان النهائي، امتُحنت مصر بوباء الكوليرا، واشتد هذا الوباء في قرية من قرى الصعيد، فيُرسل إليها ليُعين الطبيب الإنجليزي على مقاومة ذلك الوباء. وكان حسن الحظ مُقدّر له، فلا يكاد يبلغ القرية الموبوءة، حتى يخطر له أن يبحث عن مصدر الوباء، وهو يجدّ في ذلك مُصمما عليه لا يلفته عنه لافت من رضا أو سخط أو إنكار. وما يزال كذلك حتى يعرف المصدر. فإذا قهره في مصدره، خفت محنة القرية ثم ارتفع عنها البلاء. ولكن الوباء ينتشر في قرية أخرى، فيُرسل إلى بعضها بعد أن تم له النجاح في القرية الأولى. ولا يكاد يبلغ القرية التي أُرسل إليها حتى يتاح له النجاح فيها. كأنما هذا النجاح موكل به، فهو يسبقه إلى كل مكان يُرسل إليه، في الصعيد وفي الإسكندرية آخراً، حتى هدأت العاصفة». ويحكي محفوظ في فصل خاص من المذكرات بعنوان «شهور مع الكوليرا»، أنه وصل إلى قرية «موشا» راكباً على ظهر حمار أواخر مايو «أيار» من ذلك العام، فوجد الوضع متدهوراً بشدة، خصوصاً أن الخبراء الأجانب طهروا جميع آبار المياه في القرية بعد أن وجدوا بها كميات هائلة من الميكروبات، لكنهم فشلوا في معرفة مصدر الكوليرا، رغم جهودهم المضنية وبحثهم الدؤوب عن ذلك المصدر، للقضاء على أصل الداء الفتاك. وعندما قدّم محفوظ نفسه بصفته مبعوثاً من قبل «مصلحة الصحة» إلى الطبيب الإنجليزي «جودمان»، استصغره هذا، وقال له مبتسماً: لقد طلبت من السير هوراس بنشنج، مدير المصلحة، خبيراً مخضرماً وليس طبيباً عادياً لاكتشاف أصل الوباء، فإذا به يرسل لي تلميذاً! وبدأ طالب الطب عمله على الفور، فذهب إلى مسجد القرية أثناء خطبة الجمعة، وصعد إلى المنبر قائلاً للأهالي إن آبار المياه ملوثة، وإن البعثة الحكومية قامت بتطهير أو ردم جميع الآبار المعروفة، غير أن بعض الناس يخفون آبارهم خوفاً عليها من التلف، أو فقدان مصدر المياه، وهو تصرف لا ينم عن حكمة، لأن الماء الملوث هو الذي قتل المئات من سكان القرية. والطريف أن دعوة محفوظ أهالي القرية المنكوبة للكشف عن الآبار المخبأة لم تلق أي استجابة منهم، بل إنهم عمدوا إلى تغطية آبارهم بألواح من الخشب، وفرشها بالحصير البلدي، ثم وضع طبقة من التراب فوقها، حتى لا يسهل على البعثة الطبية المختصة اكتشافها! فما كان من التلميذ «النجيب» إلاّ أن استعان بنائب العمدة، وراح يفتش البيوت واحداً تلو الآخر، وهو يحمل في يده عصا غليظة يُطلق عليها «النبّوت»، جعل يدق بها أرضية كل بيت ليكتشف إن كان تحتها تجاويف. وبهذه الطريقة الذكية التي لم تخطر على بال الأطباء البريطانيين، تمكن من اكتشاف نحو 50 بئراً مخبأة، وأخذ عينات منها، ومن ثم تم إرسالها إلى المعمل البكتريولوجي في مدينة أسيوط لتحليلها، والتأكد إن كانت ملوثة من عدمه. وفي غضون ذلك، كان محفوظ يرسم خارطة ورقية كبيرة لمنازل القرية، ويضع نقطة حمراء على الخريطة عند موضع كل بئر يكتشفه، ويكتب اسم صاحب البيت في دفتر خاص. وبعد ذلك، يقارن بين الخارطة وقوائم الوفيات جرّاء الكوليرا، ويضع نقطة سوداء عند كل منزل حدثت فيه حالة وفاة. وأدى هذا العمل الدقيق الذي استمر نحو أسبوع وسط تصاعد ضحايا الوباء يوما بعد يوم، إلى اكتشاف مهم، وهو أن معظم الوفيات حدثت في المنازل المجاورة لبئر كبير اشتهر بعذوبة مائه، وأخفاه الأهالي عن أعين البعثة الحكومية، فأخذ طالب الطب عينة من هذا البئر للتحليل، وتأكد أنها ملوثة بملايين الميكروبات، فتم تطهير البئر وردمها مع تعويض صاحبها. ولم يمض أسبوع واحد حتى انقطعت الإصابات بالكوليرا نهائياً، فأصبح اسم نجيب محفوظ على كل لسان، وبات نجاحه في هزيمة الكوليرا والتفوق على الخبراء الإنجليز في هذا المجال، مثار استحسان كبير في مقالات الصحف المصرية والبريطانية الصادرة آنذاك. «بيضة مسلوقة» تصنع التاريخ رغم هزيمة وباء الكوليرا في قرية «موشا» على يديّ طالب الطب النابه، وهي الجائحة التي سجلها أمير الشعراء أحمد شوقي وقتها في قصيدة جاء فيها: الدهر جاءك باسط الأعذار فاقبل بأمر الدهر للأقدار خمسونَ ألفاً في المدائن صادهم شِركُ الردى في ليلةٍ ونهار إلاّ أن امرأة مصابة استطاعت الخروج من القرية بعد رشوة أحد الحراس بـ «بيضة مسلوقة»، وأقامت عند أقاربها في ضاحية حلوان، جنوب القاهرة. وبدل أن تهرب المرأة من الوباء كما اعتقدت، لقيت حتفها بعد أيام، لكنها تسببت قبل موتها في نقل الميكروب إلى عدد من أقاربها، ومنهم انتقل المرض إلى عشرات الآلاف من الناس في المنطقة، حتى عرفت الجائحة طريقها إلى الإسكندرية، أقصى شمال مصر. وتم تشديد القيود الصحية على جميع المحافظات المصرية، ووضع المصابين في عزل جماعي كان يطلق عليه «الكارانتينا»، وتمديد فترة الحجر المفروضة على البلاد بالكامل في 29 يوليو «تموز» 1902، فضلا عن شن حملات تنظيف وتعقيم للشوارع، كما جرى تعيين خفراء على الترع المتفرعة من النيل، لمنع الناس من استخدامها في غسل ملابس ضحايا الكوليرا، أو التخلص من النفايات في مجاري المياه. ولجأت السلطات مجدداً إلى طالب الطب، الذي كان يلاحق حالات الاشتباه بالمرض في «حلوان» وما جاورها من بلدات وقرى، بمساعدة أطباء «مصلحة الصحة»، حتى تم القضاء على كل الحالات الإيجابية لمرضى الكوليرا هناك، وإرسالهم إلى العزل الصحي. وبعد ذلك، أُوفد محفوظ رسمياً إلى مدينة الإسكندرية، وهو يقول عن ذلك في مذكراته: «ذهبت إثر وصولي على الفور للقاء الطبيب الإنجليزي المسؤول الدكتور جاردنر، فأفهمني أن العلة في بقاء الكوليرا بالمدينة هي تواصل العدوى من القادمين من قرية الدخيلة بالقرب من المكس. وتبيّن لي عندما وصلت أن سكان القرية زهاء ألف نسمة، وأنهم يستقون من ستة آبار محفورة بالقرب من شاطئ البحر، فقمت بتطهيرها وردمها، وأنشأت 20 مضخة من النوع المسمى (الحبشي)، لتوفير مياه غير ملوثة بالميكروب للأهالي، وبعدها أخدت تخف وطأة الكوليرا في الإسكندرية». وهكذا، عاد الطالب الشاب إلى القاهرة بعد أن طارد الوباء في جميع أنحاء مصر، من أعالي الصعيد حتى مدينة الثغر، بعد أن أدوى بحياة 34 ألفاً و595 شخصاً. واستأنف محفوظ دراسته في «مدرسة الطب» إلى أن تخرّج منها خلال العام التالي 1903، وأصبح واحداً من أشهر أطباء مصر والعالم، حيث تُرجمت مذكراته «حياة طبيب» إلى اللغة الإنجليزية ونُشرت في لندن. وظل الرجل يخدم المرضى لمدة 70 سنة في تخصصه الجديد «النساء والولادة»، حصل خلالها على أوسمة مصرية ودولية عديدة، حتى لقيّ وجه ربه عام 1974 عن 92 سنة. بقى إن نذكر أن د.نجيب محفوظ هو من أشرف على ولادة أم الأديب نجيب محفوظ و أن الأديب نجيب محفوظ سمى على اسم د/نجيب محفوظ و هذه معلومة قد لا يعرفها الكثيرون.
مشاركة :