يبدو الأمر مفاجئًا للكثيرين، أن يتحول السرد الى الواجهة، وتغمرنا دور النشر العربية بشلال من الروايات، وأن تمتد هذه العدوى في كل البلدان العربية، وتغطي الروايات المشهد الأدبي فيها بأعداد كبيرة لم تحدث من قبل، وأن تخرج علينا المسابقات والجوائز من كل حدب وصوب للرواية الأفضل، وتنشط الحركة النقدية في الرواية، ويخفت بريق الأنواع الأدبية الأخرى. الأمر يبدو غريبًا لأمة تنام وتصحو على الشعر، ثم يتحول كتَّاب القصة القصيرة الى الرواية، في هجرة جماعية، يليهم الشعراء وعدد محدود من النقاد. الأمر كان مفاجئًا في بعض تفاصيله، فالقصة ظلت عدة عقود تأتي في آخر قائمة الأنواع الأدبية. لكنها بشكل أو آخر كان لها الكثير من المريدين والقراء والكتّاب، وكانت الرواية آنذاك محصورة في كتّاب قلائل في أوطاننا العربية: نجيب محفوظ وحنامينة وعبد الرحمن منيف وعدد محدود آخر أقل شهرة مثل جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم والطاهر وطار وجبرا إبراهيم جبرا. وكان الشعر هو الأكثر رواجًا، واعتبر ذلك أمرًا طبيعيًا، فالشعر عبر القرون كان في صدارة اهتمام القارئ العربي، والشعراء كانوا بوفرة كتّاب الرواية في الفترة الراهنة. ساد لغط كثير حول هذا الموضوع، وظهرت تفسيرات متعددة لهذه التحولات، فهل كان التغيير يخضع لتوجه القارئ العربي وذائقته الأدبية؟ وإذا كان الأمر كذلك فلم لم تطرأ هذه الذائقة قبل عقود راوحت فيها الرواية مع عدد محدود من الروائيين العرب؟ أعتقد أن هناك أسباب موضوعية تؤدي الى ظهور وانتشار أو انحسار نوع أدبي محدد. هل هناك، إذن أسباب لهذا التغير؟ أسباب خارجة عن إرادتنا، متصلة بالحضارة والتطور والمدنية؟ أي (بمعنى آخر) أسباب تتصل بالمرحلة التاريخية، والظروف المجتمعية، والتعليم والثقافة؟.. لنعد الى تفسير الناقد لوكاش للرواية، فهو يزعم أن الرواية هي ابنة المدينة الحديثة.. فهل هذا صحيح؟ لو تتبعنا هذا التفسير سنجد أن هذا الرأي الكلاسيكي للرواية صائب الى حد ما، إذا تتبعنا تاريخ الرواية في بلاد المنشأ، البلدان الأوروبية. كان ذلك في القرن التاسع عشر، عندما تطورت المدن مع تطور الصناعة وتشكل معها مجتمع المدينة بكل ما فيها من تعقيدات العصر الصناعي الذي خلف عصر الزراعة. في هذا العصر ظهرت، في المشهد العالمي للرواية كل الأسماء التي لازالت خالدة حتى القرن الحادي والعشرين، أسماء مثل تولستوي وديستوفسكي وبلزاك وأميل زولا وديكنز وغيرهم. في الأربعينات من القرن الماضي بدأت الرواية العربية تأخذ طريقها كفنٍ جديد، وفي الفترة ذاتها كان شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ يبدأ أول عهده بالرواية التي شهدت إقبالاً عند القراء العرب. وكان أن هاجم الأديب الكبير عباس محمود العقاد الرواية، وكان هو يقرض الشعر، وكانت الرواية في ذلك الوقت تسمى القصة. كتب العقاد مقالاً في مجلة الرسالة في عدد سبتمبر في العام 1945 يقول فيه: (ونحن قد فضلنا الشعر على القصة في سياق الكلام عليهما في كتاب -في بيتي- فكل ما قلناه إذن هو أن الشعر أنفس من القصة -يقصد الرواية- وأن محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة)، ثم يضيف في السياق نفسه (وأن معدن الشعر من أجل ذلك أنفس وأغني من معدن الرواية)، لم يعجب هذا الكلام الكاتب الشاب نجيب محفوظ خريج كلية الفلسفة من جامعة القاهرة، والذي كان في بداية سلم الكتابة، فكتب ردًا على العقاد قال فيه: (الآن الأمر لم يكن يحتمل غير هذا، أنا رجل وهب حياته لفن القصة والرواية، وكنت يومها لا أزال شابًا ناشئًا، كما كنت أحب العقاد وأحترمه، ولكنه جاء يهدم الفن الذي نذرت حياتي له)، ويكمل في سياق آخر (ولعله توجد أسباب أخرى تفسر لنا انتشار القصة، هذا الانتشار الذي جعل لها السيادة على جميع الفنون الجميلة، ولعل أهم هذه الأسباب ما يعرف بروح العصر. لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطيرأما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق فيحتاج حتمًا الى فن جديد)، ثم ينهي نجيب محفوظ رده قائلاً: (فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة). إن الأمر طبيعي للغاية لو تفحصناه بموضوعية ومنطق، فالرواية تستطيع أن تغطي مساحة واسعة من الحياة لا يستطيعها الشعر ولا القصة، هذا هو السبب الأول، السبب الثاني أننا نحن العرب لم نعرف الرواية إلا في القرن العشرين. جاءت هذه الروايات عندهم في الغرب في فترة مبكرة لأنهم قطعوا أشواطا في التقدم والحضارة في القرن التاسع عشر، فيما كنا نحن نرزح في الأمية الأبجدية والأمية الثقافية. ولا ينمو السرد الروائي في محيط لا يعرف القراءة، ولا يقترب من الثقافة، إلا عند قلة محدودة، لذلك أطلت الرواية عندنا على خجل واستحياء، متلكئة، ومبتدئة في النصف الأول من القرن العشرين، في مصر المتقدمة سردا، حين كتب محمد حسين هيكل الرواية الأولى (زينب)، ثم كتب توفيق الحكيم عصفور من الشرق، وكتب طه حسين (الأيام) بين الرواية والسيرة الذاتية. ولم تأخذ الرواية شكلها الغربي إلا عندما كتبها نجيب محفوظ بمنهجية وجدارة، كما كتبها حنا منه في سوريا. قبل ذلك كان المشتغلون بالأدب لا يتحدثون إلا عن الشعر، ولا يقرأ الناس إلا الشعر، فهو النوع الأدبي السائد دون منافس، وهو موروث قديم منذ العصر الجاهلي، والعصور القديمة السابقة، حيث وجدت كتابات تشبه شعر النثر الحديث في حضارات ما بين النهرين. كانت الرواية خارج المشهد الأدبي العربي، عندما كنّا أكثر بعدًا عن العالم، لكن أخذنا بالحضارة وتفاعلنا معها على مستويات متعددة نقلتنا الى أقاليم الرواية أسوة بالغرب. في العقود الثلاثة الأخيرة حضرت الرواية بكثافة في البلدان العربية. ولَم تعد الرواية في هذه العقود الأخيرة حكرًا على مراكز الثقافة العربية، بل انتشرت في المغرب والأطراف، والخليج العربي وبخاصة في المملكة العربية السعودية. جاءت الرواية مع التحديث المديني في البلدان العربية، وتأخرت في الخليج العربي ثم اندفعت مع الطفرة الاقتصادية، تمامًا في الوقت الذي شهد الخليج العربي طفرة في التعليم والثقافة.
مشاركة :