كان العالم ينتظر أن يكون الخطر القادم هجوماً فيروسياً إلكترونياً مُوجّهاً ضد أنظمة البيانات والمعلومات ويعود بالحياة البشريَّة إلى الوراء، لكنَّ الصدمة أنْ يكون العدو هو فيروس «كورونا» (كوفيد 19 المستجِّد)، والذي تسبَّب في أكبر أزمةٍ واجهتها البشريَّة منذ الحرب العالميَّة الثانية، وأحدث خسائر بشريَّة كبيرة، وتسبَّب في هزةٍ كبيرة لاقتصادات الدول وتوقفت معه حركة التجارة الدوليَّة وخطوط الإنتاج وفُرِض التباعد الاجتماعي. أمام هذه الأزمة غير المسبوقة يُطرح السؤال عن مدى التعرض الذي أحدثته في بنية الدول، وما هي الدروس التي يجب أن نتعلمها لبناء مستقبلٍ أكثر استعداداً وحيطةً أمام أزماتٍ وبائيَّة طبيعتها التكرار؟الأزمة، كما أراها، هي تلك النقطة الحرجة واللحظة الحاسمة اللتان يُحدد عندهما مصير تطورٍ مّا، إمّا إلى الأفضل وإمّا إلى الأسوأ. أزمة «كورونا» كشفت لنا أنها تتطلب إدارةً وقيادةً استثنائيَّة وقبل ذلك وجود إجراءاتٍ وقائيَّة مُعدّة مُسبقاً ضمن مفهومٍ شاملٍ للأمن الوطنيّ الوقائي، فغياب الدليل الاستراتيجيّ الوطنيّ المسبق يُصعّب احتواء الأزمة بالسرعة المطلوبة ويُفاقم من مخاطرها وانعكاساتها ووقعها على شرائح المجتمع والمؤسَّسات. وفي ظل هذا الغياب يصبح الأمر مرهوناً بقدرة مؤسَّسات الدولة على تصميم خطة طوارئٍ عاجلة يجب أن تشمل بناء آليَّاتٍ مبتكرة لأزمةٍ طارئة، وتوليد استجاباتٍ وطنيَّة ناجعة، بالتوازي مع التطلع لإدارة تبعات وتحديَّات الأزمة على مستقبل الدولة، وأيضاً استثمار الفرص التي غالباً ما تُوفرها الأزمات. هذا الوباء كشف أنَّ الدول والمنظمات الدوليَّة لم تستفِد كثيراً من دروس الأوبئة السابقة في تطوير بنى وهياكل واستراتيجياتٍ صحيَّةٍ فاعلة فظهر خللٌ كبيرٌ في درجة الاستعداد العالمي للأوبئة، وفي الكفاءة التشغيليَّة للمنظومات الصحيّة ومحدودية قدرتها الاستيعابية، وقبل ذلك عجز المنظمات الصحيَّة الدوليَّة في الإنذار المبكر من هذه الأوبئة. يبدو أنَّ حدة الصراع بين الدول العظمى على الهيمنة الدوليَّة وسباق التسلح والحروب التجاريَّة كسبت الأولوية في الإنفاق والاهتمام على الأمن الصحيّ بشكلٍ عام والأبحاث المناعيَّة بوجه خاص. على المستوى الأمني، أفرزت هذه الجائحة نتائجَ منها: أنّه يجب على الدول أن يكون لديها نظامٌ أمنيٌّ مُعَد مُسبقاً لإدارة المجتمعات وضبط سلوكها الاجتماعي خلال الأزمات؛ حتى لا تكون عرضةً للدخول في فوضى أمنيَّة واجتماعيَّة تُعقد من إدارة الأزمة الأساس والانشغال عنها بأزماتٍ فرعية. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وَفقاً لصحيفة «لوس أنجليس تايمز»، اندفع العديد من الأميركيين للحصول على الأسلحة في الوقت الذي يتسبَّب فيه وباء الفيروس التاجي في ربكةٍ وطنيَّة للحكومة الفيدرالية في بلدٍ يُوجد فيه أكثر من 44 مليون شخصٍ ليس لديهم تغطية صحية.المفيد في الأزمات أنها ورغم فداحة الخسائر البشريَّة والاقتصاديَّة والماليَّة، تُعلمنا ألا نكرر أخطاءنا. عددٌ من الدول شهدت نهضةً تنمويَّةً كبيرة بعد إخفاقاتٍ كارثيَّة خلّفتها الحرب العالمية الثانية كألمانيا واليابان على سبيل المثال، وكذلك أمريكا بعد الكساد الكبير في عام 1929؛ لأنها طرحت السؤال التالي: لماذا خسرنا وكيف العمل لمنع تكرار ما حدث؟ يستوجب - بناءً على ما أفرزته هذه الأزمة الوبائيَّة - أن تُعيد دول العالم العربيّ التفكير في وضع استراتيجياتٍ وقائيَّة للأزمات، وبناء مراكزَ وطنيَّة دائمة لإدارة الأزمات ومُجهزة بنظامٍ معلوماتيٍّ دقيق وتحليلٍ للبيانات الضخمة، ويُصمّم فيه ما أسميه «مؤشر الأزمة» ليكون قادرا على توفير الإنذار المبكر عن الأزمات المختلفة. هذه المراكز ينبغي أنْ تتبنّى عملية صناعة القرار بشكل علمي، وتكون فيه جداول المهام الجهويّة محددة، مع توفير نظامٍ مراقب يقيس وينسّق أداء المجهود الوطني الشامل المخصص للأزمة للتأكد من أنها تُحقق الغايات السياسيَّة للدولة وتسير نحو الرؤية الاستراتيجية المراد الوصول لها بنهاية الأزمة. في تعاطيها مع الأزمة يجب أن تكون أجهزة الدولة مرنةً ومبتكرةً بما يكفي لإقامة نظامٍ اقتصاديٍّ وماليٍّ وغذائيٍّ ملائم لتطورات الأزمة، وإعلامٍ يصنع وعياً وسلوكاً اجتماعياً مُقنعاً للمجتمع كي يقبل بنمط وروتين حياة يتوافق مع مكافحة الوباء والوقاية منه. مع الأخذ في الاعتبار أن تُعير الدولة خلال السِّلم اهتماماً لبناء منظومة احتياطٍ استراتيجي وطنيّ يشمل الاحتياط النقديّ والغذائيّ والدوائيّ والتغطية الطبيَّة للسكان، بافتراض أنه خلال الأزمات المعولمة يُخشى، كما حصل مع «كورونا»، من تباطؤ حركة نقل البضائع والمؤن وتوقُّف خطوط الإنتاج في المصانع الكبرى، وانكفاء كل دولةٍ على تلبية متطلبات شعبها.هناك دولٌ نجحت إلى حدٍّ كبير في احتواء الأزمة في وقتٍ قياسيٍّ كالصين، منشأ الوباء، وسنغافورة وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ. هذه الدول تعاملت مع الأزمة بمنهجيَّات وخطط وانضباط اجتماعي، واستطاعت أن تفرض أساليبها الذاتيَّة في السيطرة على انتشار الوباء، ساعدها في ذلك توظيفها للموارد الحديثة التي استثمرت فيها مُسبقاً كالروبوتات والذكاء الصناعي وتحليل البيانات الضخمة والتتبع الإلكتروني والطباعة ثلاثية الأبعاد والتصنيع الآلي وخطوط الإنتاج الصحي وتقنية الطائرات المسيرة «درونز» في الحدّ من التجمعات ونقل المهمات الطبيَّة، وهو ما يُعطي دلالة أنَّ هذه هي علوم المستقبل التي من المفيد الاستثمار فيها.المملكة العربية السعودية فاجأت العالم بقدرتها على مواجهة الأزمة بمنظومتها الصحيّة ووعيها الاجتماعيّ في تطبيق إجراءات الحجر الصحِّي، وكذلك مركزيَّة القرار في مؤسَّسات الدولة داخلياً لاحتواء الأزمة، ناهيك عن إطلاق الحكومة للمبادرات الماليَّة والاقتصاديَّة دعماً للفئات الأكثر تضرراً من تداعيات مواجهة تلك الجائحة، ونجحت كذلك في توحيد الجهود العالميَّة لمواجهة الوباء من خلال مبادرتها لعقد القمة الافتراضيَّة لقادة دول مجموعة العشرين بهدف تجنيب الاقتصاد العالميّ خطر الركود.من جانبٍ آخر، لم تكتفِ المملكة بإدارة مخاطر الأزمة بل سعت أيضاً لاقتناص فرصها، وذلك بعد إقدام صندوق الاستثمارات العامَّة بشراء حصصٍ بقيمة تبلغ أكثر من مليار دولار في أربع من كبريات شركات النِّفط الأوروبية، وشراء حصة 8.2 في المائة في شركة «كارنيفال لرحلات السفن السياحية»، في ظل انخفاض قيمة الأصول؛ بسبب تفشِّي وباء «كورونا» وتراجع أسعار النِّفط. في النهاية، أزمة فيروس «كورونا» عاصفة ستمر قريباً، ولكنَّ التاريخ يعلمنا أنه من النادر أن يمر عقد كامل على البشريَّة دون ظهور أزمةٍ من نوعٍ مّا، ولكنه في ذات الوقت يهمس في آذاننا أنَّ الخيارات التي نتخذها في أوقات الأزمات يُمكن أن تُغير حياتنا لسنواتٍ قادمة.
مشاركة :