في المفاوضات والحوارات السياسية، لا بد أن يكون هناك ربح وخسارة. هذا الربح قد يكون لطرف على حساب الطرف الآخر، أو ربحاً للطرفين بتحقيق أكبر قدر من المكاسب مقابل تنازل الطرف الآخر عن بعض نقاط الربح؛ أو ان تكون خسارة لطرف مقابل ربح طرف آخر، أو خسارة للطرفين بسبب عدم تحقيق أدنى قدر من المكاسب. وهذه النظرية معروفة بعلم العلاقات الدولية بنظرية اللعبة. من هذا المنطلق يمكن أن ننظر لنتائج لقاء جنيف الأول الذي عقد خلال الفترة 15-19 يونيو 2015م. ومن خلال نظرة أولية لما صدر من تصريحات سياسية، يمكننا القول بأن الطرف الذي خرج بنقاط ربح أكبر من الطرف الآخر هو جماعة الحوثي الانقلابية ومن يقف في صفها أو يحسب عليها. هذا القول مبني على موقفين رئيسيين. الموقف الأول ما جاء في تصريح مبعوث الأمين العام الخاص إلى اليمن حيث قال بأن "علينا أن نكون واضحين أننا لم نصل إلى اتفاق ولم نصل إلى توقيع ورقة، لكن المشاورات كانت جيدة كان هناك تقارب حول مبادئ يمكن البناء عليها". وأضاف أيضاً بأنه "رغم التعاطي الإيجابي، كان هناك تحديات كبرى منها تشدد المواقف وصعوبة تحقيق تقارير وإيجاد أرضية مشتركة خلال اجتماع أول أو اجتماع ثان او ثالث. ومجرد قبول فكرة الحوار وتقبل التعاطي مع قرار مجلس الأمن هو أمر جيد وأمور يمكن البناء عليها تظل الهدنة الإنسانية هي الاولوية". فمثل هذه التصريحات وإن كان ظاهرها يهدف لحل المسألة اليمنية، إلا أنها تعطي جماعة الحوثي مكانة فوق مكانتها الحقيقية على أرض الواقع. فالمبعوث الأممي يضع جميع الأطراف اليمنية على قدم المساواة مع بعضها البعض، وفي نفس الوقت لم يفرق بين من يستخدم السلاح وانقلب على الشرعية السياسية ممن يمثل الدولة اليمنية بشكل رسمي وبشرعية شعبية يمنية. ومما يثير نوعاً من التساؤلات أيضاً أن مبعوث الأمين العام لم يوجه أية نقد لجماعة الحوثي التي تأخرت عن حضور اللقاء ما سبب تأجيل المشاورات او المفاوضات يوماً بكامله. وفي العرف الدبلوماسي يعتبر مثل هذا التصرف اعتراضاً أو انسحاباً من اللقاء ما يتوجب توجيه اللوم الدبلوماسي والسياسي لمن يمارس التخلف عن مواعيد معلنة سلفاً. هذا التصرف الذي لم تعاقب عليه جماعة الحوثي ولو بلوم دبلوماسي، تبعه موقف سلبي آخر من الأمم المتحدة التي قامت بإعادة توجيه سفينة تابعة للأمم المتحدة ومحملة ب 10 آلاف طن من المواد الاغاثية التي كان مقررا توجهها لموانئ عدن، لتتوجه إلى ميناء الحديدة الذي تسيطر عليه جماعة الحوثي الانقلابية وأتباعها. فمثل هذا التصرف يدعو للاستغراب والتساؤلات حول توافق مواقف الأمم المتحدة بتعاملها السياسي والانساني مع جماعة الحوثي التي انقلبت على الشرعية السياسية وتستخدم المليشيات المسلحة وتمارس العنف ضد الشعب اليمني. ولعل هناك مسائل لا نعلمها هي من جعل الأمم المتحدة تتعامل بإيجابية مع جماعة الحوثي الانقلابية والمدعومة من الدولة الإيرانية. الموقف الثاني ما يمكن استشفافه من تصريح وزير الخارجية اليمني الذي قال "للأسف لم يتح لنا الوفد الحوثي تحقيق تقدم حقيقي كما كنا نأمل، لكن انتهاء جولة مشاورات جنيف دون التوصل إلى اتفاق لا يعني الفشل، وإنما هي بداية لعمل طويل، وما زلنا متفائلين أننا سنذهب إلى حل سلمي لليمن تحت مظلة الأمم المتحدة." فعلى الرغم من أن هذا التصريح يعتبر تصريحاً دبلوماسياً ويعبر عن مسؤولية سياسية من حكومة شرعية، إلا أن الرأي العام العالمي والسياسة الدولية تنظران له من زاوية المساواة الكاملة مع جماعة الحوثي الانقلابية. وفي الوقت الذي حصلت فيه جماعة الحوثي على مكاسب من عقد لقاء جنيف سواءً من: 1 - إعطائها الشرعية السياسية على الساحة اليمنية وبأنها تمثل شريحة اجتماعية من المجتمع اليمني. 2 - إعطائها الفرصة السياسية للظهور أمام المجتمع الدولي من خلال اعتراف الأمم المتحدة بها كفريق سياسي. 3 - إعطائها فرصة الظهور أمام المنظمات الدولية بمختلف مستوياتها السياسية والحقوقية وغيرها من مستويات؛ فإن هذه المكاسب التي تعتبر كبيرة جداً بالنسبة لجماعة الحوثي سوف تزداد لأنها سوف تساهم بشكل مباشر في رسم مستقبل العمل السياسي في الدولة اليمنية. وما يدفعنا لقول ذلك هو أن مؤتمر جنيف الأول الذي أعلن بأنه مؤتمر تشاوري هو في الأصل تحاوري أو مؤتمر مفاوضات. وهذا يتضح بداية من المواقف السياسية التي تعاملت مع جماعة الحوثي على أساس أخذ رأيها في الحسبان وعدم مطالبتها بما تم الاتفاق عليه سابقاً أو عدم فرض عليها تطبيق القرار الصادر من مجلس الأمن 2216. وكذلك يتضح من التصريحات السياسية التي جاءت من مبعوث الأمين العام الخاص إلى اليمن الذي يتعامل مع جماعة الحوثي وممثليها كما يتعامل مع الحكومة الشرعية ووممثليها. وفي الختام، يمكن القول بأن مؤتمر جنيف الأول فيه الكثير من الدروس السياسية التي يمكن الاستفادة منها سواء أكانت إيجابية وهي قليلة جداً أم سلبية لتصحيح المسار في مؤتمرات جنيف القادمة. وما يجب إدراكه بأن مبعوث الأمين العام الخاص إلى اليمن يحتاج الكثير من الوقت ليتعرف على تعقيدات المسألة اليمنية وما يؤثر فيها داخلياً وخارجيا. وفي هذا نقاط يمكن الارتكاز عليها في البناء والتوجيه. *أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
مشاركة :