غسان الرحباني لـ «الراي»: الموسيقى صلاة ودواء

  • 4/26/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في عُزْلَتِهم المنزلية يفتّش الناس عن بصيصِ أَمَلٍ يُبْعِد عنهم شبح الخوف من المرض وذعر العدوى. كلٌّ يبحث على طريقته عما يريح أعصابه ويخفف عنه التوتّر الذي يعبث بكل خلية من خلايا جسمه وجهازه العصبي، ولكن إذا كان من الصعب عزل النفس عن مصادر التوتر، فثمة نغمة تلوح في الأفق لتشكل واحة سلام للروح و الجسد، إنها الموسيقى التي تفعل فعلها السحري لتخفيف وطأة الحجْر المنزلي وشدّ أواصر الناس فيما بينهم من خلال الأنغام. قد يقول البعض إن الوقت ليس للموسيقى، و ما بين أخبار الفيروس والأخبار السياسية والاقتصادية المُقْلِقَة ومتابعة الدروس والأشغال عن بُعد، لا وقت حقاً للموسيقى، ولكن الواقع يُثْبِت عكس ذلك، والتجارب الموسيقية الأخيرة عبر العالم بيّنت تأثير الموسيقى في إيجاد روابط التضامن بين الناس رغم ابتعادهم الجسدي، وأظهرت دورها في إيصال الرسائل التوجيهية إليهم بشكل أقوى وأكثر فاعلية. موسيقى الأملفي 12 ابريل أحيا المغني العالمي أندريا بوتشيلي وحيداً حفلاً غنائياً في كاتدرائية دومو في ميلانو المدينة الإيطالية المنكوبة تحت عنوان «موسيقى للأمل»، وشكل الحفل حدَثاً عالمياً تابعه أكثر من مليون شخص عبر «يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي. وقال بوتشيلي إنه بفعل الموسيقى التي بُثّت حية اجتمعت ملايين الأيدي المصفّقة في كل مكان حول العالم وعانقتْ الأرضَ المجروحة وقلْبَها النابض الذي عنى به إيطاليا، وبالفعل خفقت القلوب عبر العالم على وقع موسيقى التينور الإيطالي حيث شعر مئات آلاف البشر بنغماتها تتسلّل إلى أرواحهم وتشكّل رابطاً خفياً يجمع بينهم ولو كانوا كلٌّ في بلده وبيته ومحجره. وبدوره قدم العازف العالمي «ياني» حفلاً موسيقياً كلاسيكياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعمد من خلال موسيقاه وما تحمله من شجن على مواساة كل شخص يمرّ بظروف حياتية صعبة في هذه المرحلة وعلى تقديم تحية وداع لكل النفوس التي رحلت عن هذه الأرض بسبب الفيروس القاتل. على الصعيد العربي المحاولات الموسيقية متعدّدة، ففي أكثر من بلد اجتمع عدد من الفنانين ليطلقوا أغنيةً مشتركة كلٌّ من بيته ويشكلوا معاً جوقة أمل وتَضامُن ودعم، فمن اليمن ومصر ولبنان وسورية انطلقت أغنيات ومعزوفات بأسلوب جديد بحيث أن المشاركين استطاعوا رغم البُعد الجسدي أن يكونوا وحدة تغنّي وتعزف معاً لدعم الناس المَحْجورين في بيوتهم وتحية الطواقم الطبية والتمريضية في مواجهة فيروس كورونا. فنانون، هواة أو حتى مدّعو فن وجدوا في الأغنيات الساخرة نوعاً من التحدي لفيروس كورونا وباتت كل قوافي الأغنيات تنتهي بالكلمة المشؤومة، وكأنما السخرية صارت في العالم العربي الطريقة الوحيدة للهروب من المآسي التي نواجهها والتلطي خلْف قِناع الضحكة للتخفيف من حدة الواقع المؤلم. بعض الفنانين شكلت علاقتهم بالموسيقى في هذا الظرف أمراً أكثر شخصية، فالفنان والموسيقي الكبير مارسيل خليفة أصيب في الصميم بعدما تعرّض ابنه رامي للعدوى وأصيب بـ «كورونا» وأمضى شهراً صعبا يكافح المرض... «كان السبيل للشفاء هو دواء الحب الممزوج بالموسيقى» قالها مارسيل خليفة على صفحته الخاصة على «فيسبوك»، راوياً الصمت والحجر والعزلة التي امتدّت بهم قرابة شهر كما لو كانوا في حلم وكيف أن الخوف تَسَلَّلَ الى كل ما ألفوه من عادات حتى السهرة على وتر. الفنان غسان الرحباني الذي اعتاد أن يحمل على كاهله كل القضايا الوطنية، له في هذه المرحلة أكثر من موقف، فماذا قال لـ «الراي» عن علاقته بالموسيقى في هذه الأيام؟ الرحباني أكد أنه شعر «بخشية كبيرة من خروج الناس من منازلهم وكسْرهم للحَجْر المنزلي، وكنتُ أعرف جيداً أهمية الصلاة بالنسبة إليهم وأهمية أن يقصدوا دور العبادة، ولذا أطلقتُ أغنيةً قصيرةً تحمل اسم lockdown أدعو من خلالها الناس الى التزام منازلهم وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى، كما أدعوهم بشكل خاص للصلاة من المنزل لأن الله سبحانه وتعالى يُصْغي إلى دعوات المصلّين أينما كانوا. أَرَدْتُها أغنيةً قصيرةً تشكّل رسالة مُلَحَّنَةً للناس، وكنتُ سابقاً أطلقتُ عبر حسابي على انستغرام رسالةً شفويةً تدعو إلى الأمر نفسه، لكنني وجدتُ أن الرسالة الموسيقية تصل الى الناس بشكل أسرع». وأضاف الرحباني: «كلنا نعاني اليوم حالة كآبة مستترة أو حتى من هستيريا جَماعية، ولذا نحن بحاجة الى الموسيقى لنرتاح قليلاً ونخفّف من الذعر و (السترس) اللذين نعيشهما. نصف ساعة من الإصغاء الى الموسيقى يومياً قادرة على تعديل المزاج. ولا يهمّ نوع الموسيقى التي نسمعها، فالبعض يَسْتَرْخون على أنغام رومانسية هادئة والبعض يفضّلون الإيقاع الراقص الذي يبثّ فيهم الحياة والنشاط. بعضهم يفضلون الاستماع إلى فيروز أو عبد الحليم ومنهم مَن يحبون الجاز. المهمّ أن تفعل الموسيقى فعلها فيهم وتهدّئ أعصابهم». وتابع: «من جهتي لديّ طريقتي الخاصة في الاستماع الى الموسيقى، حيث ألجأ الى الصاخبة منها وأسمعها بصوتٍ عالٍ وأشعر حينها بأن وقْع (البايز) يدْخل في جسمي، وبعد 4 أو 5 أغنيات أشعر بأنني قد أخرجتُ كل ما في داخلي من توتر وارتحت. الموسيقى بصيصُ أملٍ وسط بحر من الأخبار المُفْزِعة تأتينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار والهاتف، هي ضوءٌ في هذا الفراغ الذي نعيشه. وما نراه اليوم من أعمال موسيقية عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو على أرض الواقع في الأحياء والبنايات دليلٌ على أهميتها في إيجاد حالة من الوعي بين الناس وحالة من التضامن والتآزر بينهم. فكلٌّ عبر موسيقاه يقول للآخَر نحن موجودين لبعض، وفي الأغنية التي أطلقتُها أدعو بكلمات بسيطة الى التواضع والتسامح والتضامن». بالموسيقى تَكَيَّفْنا مع الواقع الجديد داخل منازلناماذا عن الناس في بيوتهم، هل اختلفتْ طريقة تعاطيهم مع الموسيقى في عُزْلتهم المنزلية؟ نشر تطبيق «ديزر»، وهو تطبيق يربط 16 مليون مُسْتَخْدِم من حول العالم بـ 56 مليون مقطوعة ويتوافر في أكثر من 180 بلداً، ما يشبه الإحصاءات عن تغيير عادات الناس في أسلوب استماع الموسيقى في فترة الحَجْر المنزلي وكيف تَكَيَّفوا مع الواقع الجديد. فبعد إعلان الإغلاق التام في غالبية الدول، شهدت المواقع الموسيقية انخفاضاً ملحوظاً في البث الموسيقي، ولكن بعد نحو أسبوع بدأتْ مستوياتُ المشاركة بالارتفاع مرة أخرى. وأشارت البيانات الخاصة بـ «ديزر» إلى أن الأفراد احتاجوا إلى نحو عشرة أيام للتكيف مع أسلوب حياتهم الجديد خلال الحجْر المنزلي، وبعد انخفاض مستويات المشاركة في البداية، استقرّت بعد الأسبوع الأول من الإغلاق التام. كذلك شهد التعاطي مع الموسيقى تبدّلاً في المواعيد والأوقات وحتى في اساليب الاستماع، فبعدما كانت فترة الذروة في الاستماع أيام الأسبوع تبدأ من الساعة السابعة أو الثامنة صباحاً أثناء الانتقال إلى أمكنة العمل، باتت حالياً تبدأ من الحادية عشرة أو الثانية عشرة ظهراً بعد أن يستيقظ الناس بهدوء، أمّا في عطلة نهاية الأسبوع فبات الناس يستخدمون خدمات البث الموسيقي بشكل مستمرّ في فترة ما بعد الظهر، وهو أمرٌ لم يكن معروفاً سابقاً حيث كانت هذه الفترة مخصَّصة للراحة أو النوم، كذلك لم يعد النشاط الموسيقي يقتصر على «الويك اند» بل بات على نفْس المستوى طوال أيام الأسبوع، ولم يعد ثمة اختلافات واضحة بين أيام الأسبوع وعطلات نهاية الأسبوع.أنواع موسيقية مختلفة لنشاطاتٍ بيتية متنوّعةلا شك في أن فترة الانعزال المنزلي فرضت نشاطات مختلفة على الصغار والكبار تنوّعت بين العمل والدراسة عن بُعد وبين التمارين الرياضية والأنشطة الترفيهية، كما فرضت أوقات فراغٍ كثيرة لم تخْلُ من التوتر، لذا كان لا بد لمقدمي الموسيقى من مراجعة القوائم الموسيقية لتقديم خيارات جديدة تُناسِب الأوقات المختلفة في البيت. وقد لاحَظَ القيّمون على تطبيق «ديزر» مثلاً ارتفاعَ الطلب على قوائم الموسيقى التي تحمل عناوين مُطَمْئنة مثل «روق في البيت» أو «أوقات السعادة» وكأن الناس يبحثون من خلال الموسيقى عمّا يبعث الهدوء والراحة في النفس، وازدهرتْ كذلك الموسيقى التي تتيح تمارين التأّمّل بنسبة عالية جداً. كما تمّت ملاحظة خياراتٍ موسيقية جديدة تتماشى مع الوضع المستجدّ داخل المنزل، ومنها ازديادُ الطلبِ على الموسيقى التي تندرج تحت عنوان «العمل من المنزل» أو تحت عنوان «أتمرّن من البيت»، إضافة الى الأنواع الموسيقية التي تسمح بتحضير أجواء ترفيهية للأطفال ونشاطات خاصة بهم. وبات جلياً ان الموسيقى صارتْ جزءاً لا يتجزأ من الروتين اليومي لحياة الناس.

مشاركة :