فلم تزل نعم الله تعالى على المسلمين تترى؛ ذلك أنهم خير أمة وجدت على ظهر الأرض منذ بدء الخليقة إلى يوم القيامة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وأنهم أوسط الأمم وأعدلها وأفضلها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].وقد اختص الله تعالى المسلمين بنعم كثيرة وفضائل جليلة لم يشاركهم فيها غيرهم، ومن أعظم هذه الفضائل وتلك النعم منحة ليلة القدر التي اختصها بنزول القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر: 1- 5] وهذا النزول هو النزول إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة، ومنه نزل إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا على مدة دعوته صلى الله عليه وسلم، وهي ثلاث وعشرين سنة( )، ولما كانت هذه الليلة ذات قدر عظيم عند الله عز وجل -حسبما يدل على ذلك اسمها؛ لأن القدر هو الشرف والمنزلة- اختصت بنزول القرآن فيها دون سائر الليالي والأيام، وهذه الليلة أيضا هي الليلة المباركة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)} [الدخان: 3]، وهي في شهر رمضان المبارك، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].وقد اشتملت هذه الليلة الكريمة على عدة فضائل: منها: أن العمل الصالح فيها خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وهو ما يعادل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة شهور، ذلك أن حكمة الله تعالى اقتضت تفضيل بعض الأزمان على بعض، كتفضيل شهر رمضان على بقية الشهور، وتفضيل يوم الجمعة على سائر الأيام، ومن ذلك تفضيل ليلة القدر على غيرها من الليالي، وكذلك تفضيل بعض الأعمال على غيرها، كتفضيل جهاد يوم في سبيل الله على ألف يوم فيما عداه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ"( )، ومن ذلك تفضيل العمل الصالح في ليلة القدر على العمل الصالح في غيرها، ومن هذه الفضائل: نزول الملائكة والروح -وهو جبريل- عليهم السلام فيها من السماء إلى الأرض بأمر الله تبارك وتعالى بكل أمر فيه خير ومغفرة ورحمة، ومنها: أن فيها سلاما من كل شر وسوء حتى يطلع فجرها، ومنها:أن فيها يفصل من اللوح المحفوظ الأمور الكائنة في السنة كلها إلى مثلها في العام القادم من الحياة والموت والأرزاق والأمطار والبلايا والمواهب وغيرها إلى الملائكة الموكلين بذلك.ولهذا فقد حث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث على تحريها والتماسها وطلبها بغية إدراكها وتحصيل أجرها، الذي ربما يكون أفضل عمل للمرء من أول حياته إلى آخرها، فقال: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"، وفي رواية: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"() بالإطلاق في العشر دون تقييدها بالوتر منها، وقال أيضا: "التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى"( ).وقد صح في تعيينها أحاديث كثيرة، منها ما أفاد أنها وقعت ليلة الحادي والعشرين، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،وذلك بالعلامة التي أخبرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم،أنه يسجد ليلتها في ماء وطين، وقد رُئي رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفا من صلاة الصبح ووجهه ممتلئ طينا وماء، بسبب المطر ليلتها وسيلان الماء من سقف المسجد( )، ومنها ما أفاد أنها وقعت ليلة الثالث والعشرين، كما في حديث عبد الله بن أنيس، وذلك أيضا بالعلامة التي أخبرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يسجد صحبها في ماء وطين( )،ومنها ما أفاد أنها وقعت ليلة السابع والعشرين، كما في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، وأنه كان يقم على ذلك ولا يستثن، وذلك بالعلامة التي أخبرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها( )... إلخ. حتى وصل الأمر إلى أنه ما من ليلة من ليالي العشر إلا وقد ورد فيها حديث يدل أنها فيها، ولو بوجه من التأويل، لذا فقد اختلف العلماء في تعيينها، وأرجح الأقوال فيها وأرجاها أنها في أوتار العشر الأواخر، وأنها تنتقل فيها، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين( ).وأصحاب هذا الرأي حملوا المطلق من الأحاديث في أن ليلة القدر في العشر كلها على المقيدة بالوتر منها؛ بناء على أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتحد السبب والحكم، كما تقرر في علم الأصول( ).ومع هذا فإني أرى أن الأحوط هو الاجتهاد والتحري في العشر كلها شفعها ووترها، وذلك لأن الوتر يكون بحسبما مضى من الشهر، ويكون بحسب ما بقي منه، فباعتبار ما مضى منه تكون ليالي الحادي والثالث والخامس والسابع والتاسع والعشرين هي الأوتار، وهذا لا اختلاف فيه.وأما باعتبار ما بقي كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى" فيختلف الأمر على حسب كمال الشهر ونقصانه، فإن كان الشهر كاملا كانت الأشفاع من ليالي العشر الأواخر هي المقصودة بالالتماس، وبهذا فسرها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فلما سئل عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة":"يا أبا سعيد: إنكم أعلم بالعدد منا، قال: أجل، نحن أحق بذلك منكم، قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتان وعشرون، وهى التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها هي السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة"( )، وأما إذا كان الشهر ناقصا كانت الليالي هي نفسها باعتبار ما مضى من الشهر، أي: ليالي الحادي والثالث والخامس والسابع والتاسع والعشرين هي الأوتار( ).ويدل على هذا أيضا فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يجتهد في العشر الأواخر كلها، فعن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"( )، وبهذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد سن لأمته العمل بالأحوط في الليالي العشر الأخيرة من رمضان لئلا تفوتهم ليلة القدر، ولا يظن أن هذا من تشديد الله جلت عظمته على عباده، كلا؛ لأنه لم يجعل ليلة القدر في ليالي السنة كله، وإنما جعلها في عشر ليال منها فحسب، وهذا قليل بالنسبة إلى طلب مغفرته سبحانه ورضاه، وبالله تعالى التوفيق والسداد، ونسأله الهدى والرشاد.
مشاركة :