قال الله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5)}، لولا أنها ليلة عظيمة لما نزلت فيها سورة، تتحدث عنها فقط، وقد كثر الحديث عنها، واختلف المفسرون حولها، مع إجماعهم على تفردها عن سائر الليالي، فقد قال الكثير من المفسرين إنها مدنية، وقال البعض ومنهم الماوردي إنها مكية، بينما يرى القرطبي وغيره أنها مدنية. والطبري ينقل لنا عن ابن عباس أن الله نزّل القرآن كله مرة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئاً أوحاه، وفي لفظ آخر عن حكيم بن جبير عن ابن عباس كما دونه الطبري في تفسيره، نزل القرآن في ليلة من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، ثم تلا ابن عباس الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، قال ثم نزل متفرقاً، وعلماء التفسير في هذه الأقوال، ينقلون عن ابن عباس، وقد قيل عنه إنه ترجمان القرآن، لكثرة ما أسند إليه من تفسير، والآية لم تشر بوضوح لفظي إلى أن المنزل هو القرآن، لكن العلماء رأوا أن السورة السابقة لسورة القدر هي سورة العلق، وفيها كان الأمر بالقراءة وهي أول سورة نزلت، وهي سورة مكية، وربما أن من رأى أن سورة القدر مكية قد أخذ بعين الاعتبار كون سورة العلق مكية، وكونها أيضاً قد بدأت بالأمر بالقراءة، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}، والمقصود بالقراءة بلاشك قراءة القرآن، ولهذا فقد استنتج العلماء بأن قول الله تعالى في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، المقصود هو القرآن، كما أن سورة القدر ترتبط بالعبادة، وسورة العلق أيضاً فيها النهي عن محاربة المصلين، في قول الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)}. ونظر العلماء إلى السورة التالية لها، وهي سورة البينة، قال الله تعالى : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)}، والعلماء يقولون إن البينة هو الرسول وفي ظني أن تفسيرها أن البينة تأتيهم على يد رسول من الله، يتلو عليهم القرآن وتوافق ما في هذه السورة الكريمة مع سورة القدر من مقاصد جعلت المفسرين يرون أن المقصود بما أنزله الله هو القرآن، لاسيما أن السورة السابقة تندرج في نفس السياق. قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، وقيل حول ذلك الكثير، من ذلك ما قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، من أنها ليلة القدر التي يكتب فيها ما قدر في العام القادم من أقدار وأرزاق وآجال، وغير ذلك، ولهذا فإن اغتنام الاجتهاد بالعبادة فيها غنيمة يغتنمها المسلم، وهي ليلة واحدة في العام، يجب عدم التفريط بها لمن كان يرجو رضاء ربه، وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، والقدر هو العز والعظمة والعلو والشرف، وهذا يدل على شرف هذه الليلة الكريمة وعلو شأنها. وألف شهر التي ذكرت في الآية الكريمة، قد تعني الألف، وقد تعني الكثرة، لأن ذلك هو العدد الأكبر في ذلك الزمان، وهذ يدل على ما فيها من خير مضاعف يجب على المسلم الحصيف ألا يفوته على نفسه، فهي موسم يجب استغلاله، وقال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، أي أن الملائكة تنزل إلى الأرض حتى لا يبقى فيها بقعة إلا وفيها ملك يعبد الله ويسبح بحمده، وتتنزل أي تنزل تباعاً وتتدفق، والروح قال بعض المفسرين إن المقصود بها جبريل عليه السلام، وهناك من قال إنها الرحمة، وهذا ما أميل له، وقول الله تعالى (بإذن ربهم من كل أمر)، أي بأمر ربهم، فالله هو الذي يأمرهم ويأذن لهم، وقال تعالى في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي أن الملائكة تنزل وهي تحمل معها الرحمة من الله سبحانه وتعالى، على من يشاء من عباده، والله عادل وبعدله وحكمته تقع مشيئته. قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، أي أنها سلام وخير ومحبة، أما قول الضحاك في أن الله سبحانه وتعالى لا يُقَدَّرُ في تلك الليلة إلا السلامة، وأما الليالي الأخرى فإنه يقدر فيها البلاء والسلامة، فإنني لا أعلم على أي ركيزة بنى قوله، إلا إذا كان قد علم علماً لم أعلمه. ويمكننا القول إن التفاسير هي اجتهاد علماء أخيار، نالوا من العلم ما نالوا، فتركوا لنا زاداً علمياً قيماً، لكن يظل ذلك اجتهاداً إنسانياً، إلا ما بني على حديث صحيح، واضح الدلالة على تفسير الآية، رحمهم الله وجمعنا بهم في الجنة، وقد قيل ما قيل عن أماراتها، أما ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، فهو حق، وغير ذلك من أقوال أو رؤيا منام لأفراد، فالله أعلم بذلك. اللهم بلغنا هذه الليلة الكريمة، واجعلنا فيها من المقبولين العبادة والدعاء، وأن تجعلها فاتحة خير لنا ولأبنائنا وزوجاتنا وإخواننا ومن نحب، وجميع المسلمين، وأن تجعلها باب سلام على قلوبنا، ونفوسنا وجوارحنا، وأن تبدل فيها ما اعترانا من كدر بخير عميم، ورضاء دائم من رب كريم، وأن يسخر الله لنا من تولى أمرنا، وأن يهدي ضالنا، وأن يرزقنا من حيث لا نحتسب.
مشاركة :