أمام الثقافة العربية مهمة صعبة وتحد خطير، خصوصا في مرحلة العولمة وتجلياتها الثقافية والمعرفية والمعلوماتية والاتصالاتية، وما يطرح من مقولات حول صراع الحضارات والثقافات، وتصوير اتجاهات يمينية متطرفة وقوى نافذة ومتحكمة في النظام العالمي بأن الصراع الرئيسي في العالم أصبح يتحدد بعوامل ثقافية وحضارية ودينية، وبأنه يتمثل أو يدور في هذه المرحلة التاريخية بين الإسلام كدين وثقافة وحضارة وبين الغرب الذي يمثل النقيض تماما. والإشكالية هنا لا تكمن في تأزم الواقع العربي فقط، بل إن البديل أو البدائل المقترحة مأزومة أيضا. نشير هنا إلى حقيقة التراجع الحاد والسريع في شعبية ونفوذ جماعات الإسلام السياسي التي تصدرت المشهد السياسي وطرحت نفسها كبديل للأنظمة الحاكمة المتهالكة، وذلك بفعل أطروحاتها الإقصائية وممارساتها الاستحواذية على صعيد الدولة والسلطة والمجتمع، والتي لم تختلف في نهجها وممارساتها من حيث الجوهر عن النظم السابقة. أسئلة وتساؤلات مشروع النهضة لا تزال تراوح مكانها، بل تراجع الكثير منها، ولا تزال مصطلحات ومفردات الأنتلجنسيا والثقافة، والمعرفة والأيدلوجيا غائمة وغير محددة الملامح ويكتنفها الالتباس التاريخي والمعرفي في الآن معا، وذلك بفعل طبيعة المسار الذي اختطته أو فرض على المجتمعات العربية الولوج فيه، ما أدى إلى المراوحة والعجز عن تمثل وهضم وتجاوز إشكاليات مزمنة ما برحت تسم الوضع الاجتماعي وإمداداته وإفرازاته؛ كالعلاقة بين الثنائيات المتقابلة القديم «التراث» والجديد «المعاصرة» والمحلي والوافد والنقل والعقل، الأنا والآخر، الخصوصية والعالمية، وهذه الصعوبات ترجع في جانب منها إلى عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية اتسم بها طابع التطور (المشوه والتابع بوجه عام) وتناقضات نشوء الدولة العربية «الحديثة»، ما استتبع غياب وتهميش دور الأنتلجسيا والمثقف العضوي «بتعبير غرامشي» أمام سطوة وحضور المثقف التقليدي بشقيه المحافظ والموظف الأيديولوجي. فما يميز الثقافة العربية هو افتقادها الرؤية والممارسة الثقافية النقدية بأبعادها التاريخية والراهنة والمستقبلية، وسيادة النزعة التلفيقية التي تقوم على الجمع بين متناقضات فكرية ونظم معرفية متقابلة والانفصال بين الفكر والواقع والشعار والممارسة، ما عطل قدرة المثقف على تحقيق استقلاليته إزاء الدولة والمجتمع وممارسة دوره ووظيفته النقدية. فشلت الدولة العربية في تحقيق أي من الأهداف والشعارات الوطنية والقومية غداة الاستقلال؛ كالحرية والتنمية والعدالة والوحدة وتحرير فلسطين، وهو ما أدى إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتفكك الروابط والصلات الوطنية والقومية وتصدر الانتماءات والهويات (الدينية والمذهبية والإثنية والقبلية) الفرعية والتقليدية، وانتعاش المجموعات الأصولية المتطرفة والتكفيرية وتفشي العنف والإرهاب المنفلت الموجه ضد الأنظمة والمجتمعات والأفراد. ويمارس فقه التكفير دوره في إجهاض وتجميد الإصلاح الديني ومحاربة العقل ورفض الحداثة. إزاء كل ذلك، فإن الدولة العربية التي تعيش أزمتها البنيوية العميقة والمركبة عمدت إلى تقوية جهازها البيروقراطي/ العسكري، واعتمدت الحلول الأمنية في مواجهة الأزمات الحادة التي تعصف بها. غير أن الحياة والتجربة التاريخية لكافة الشعوب تؤكد أن الحلول الأمنية في مواجهة الأزمات البنيوية العميقة لن تجدي نفعا على المدى البعيد، بل تؤدي إلى مزيد من التمزق والتفتت والاحتراب. فالبديل الواقعي والصحيح يتمثل في إيجاد الحلول الصحيحة لكافة المسائل والمشكلات والقضايا التي تعوق تحقيق المواطنة المتساوية والحرية والعدالة والمساواة، والتأكيد على الانتماء الإنساني المشترك، والتفاعل الخلاق مع العالم في إطار الحضارة الكونية الواحدة، وبما يحافظ على الهوية والخصوصية الثقافية والحضارية. فإزاء فشل الثقافة والأيدلوجية «القومية» التقليدية وكل الأيدلوجيات الشمولية (بما في ذلك الأيدلوجيات الدينية والمذهبية) المعلبة والمنغلقة، فإننا بحاجة إلى البحث عن عوامل استنهاض نهضوي عربي جديد يشكل رافعة لانتشال الوضع العربي من أزمته المركبة والمستعصية.
مشاركة :