من حق اليمنيين أن يحلموا بان يكون لهم وطن آمن ومستقر لا تتجاذبه الصراعات والحروب ودورات العنف والرغبات المسكونة بنوازع الانتقام، وأن تكون لهم دولة قوية وحديثة لا دولة سواها ولا سلاح غير سلاحها تقوم على المواطنة والشراكة تكون لجميع اليمنيين وليس لطائفة أو جماعة أو قبيلة أو حزب أو مذهب. ولكن كيف لهذا الحلم أن يتحقق أو أن يغدو واقعاً؟ فيما ان اليمن ظل البلد (الاستثناء) في المنطقة الذي لم يستقر طوال مراحل تاريخه القديم والحديث، وتلك حقيقة لا يفطن إليها إلا كل من اقترب أو غاص في خفايا هذا التاريخ المؤلم الذي طالما كان الاتجاه الطاغي فيه هو الاتجاه الذي يقدس الفوضى وعدم الاستقرار و"الأنا" المتعالية التي لا تقر بحق الآخر وبفعل طغيان هذا الاتجاه وثقافته، فإن ما نشأ من هياكل للدولة في العقود الخمسة الماضية لم تكن سوى هياكل صورية لدولة هشة غير قادرة على فرض إرادتها وقوانينها على القوى التي حافظت على تخندقها في مواقعها القديمة، والأساس في هذه المنهجية كما سبق وأن تحدث عنها ابن خلدون يتمحور في الإشكالية التي رافقت مثل هذه الدولة الهشة. لقد ظن البعض في اليمن أن الدولة الوطنية ستتأسس بطريقة آلية وطبيعية عقب الإعلان عن قيام اليمن الموحد في مايو 1990 إلا انه وبعد مرور ربع قرن من الزمن أو من التاريخ أدرك هؤلاء أن بلوغ ذلك الهدف ما زال من الأمور الصعبة والمتشعبة مع توالي ولادة الأحداث المأساوية يوماً بعد آخر ومع تداخل القوى بعضها بالبعض الآخر واندفاع كل منها نحو مصالحه ومنافعه ولذلك فقد جاء مولود هذه الدولة كسيحاً وغير مكتمل وهو الذي أنتج مع الأسف المزيد من الصراعات والانقسامات والحروب والدماء. فالرغبة الجامحة بالوحدة تلاشت وانتهت إلى الرغبة بالتشرذم والتشظي، والرغبة بالديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية خارت وانتكست تحت إيقاع فوضى السلاح وغلبة المليشيات المتعسكرة، والحلول كل الحلول أو على الأقل ما كنا نتوهم أنه سيمثل قاعدة للتغيير بعد (الربيع اليمني) تمخض عن معالجات قاصرة أحيانا وخاطئة أحياناً أخرى. من حق اليمنيين بالفعل أن يحلموا بأن يكون لهم وطن آمن ومستقر ولكن كيف لهذا الحلم أن يتحقق إذا ما كان هذا الوطن أسيراً لأطماع عُصبة والمصالح المتحلقة حول تلك العصبة، وأسيراً لمنطق القوة وشبق الصراع على السلطة بين جماعة تريد اليمن كله وسلطة يعترف العالم بشرعيتها لكنها لا تبادر ولا تتحدث بشكل مباشر أو غير مباشر عما تنوي القيام به وفي المقابل هناك أحزاب سياسية تقولب أعضاءها أو تصوغهم في إطار تحكمه أو تتحكم فيه شبكة المصالح وهو ما يجعل من هذه الأحزاب ليس أكثر من كيانات متصارعة أو مجموعات متناحرة لا تلتقي على أرضية مشتركة وإذا ما قدر لها وأن التقت فإنها لن تتفق على تنحية الخلافات لا حلها، وبالتالي فقد تحولت إلى جزء من المشكلة بدلاً من أن تصبح جزءاً من الحل. لم يسمح للبلاد منذ ربع قرن بالخروج من الأزمة ومغادرة زمن الأزمات ويرى الجميع اليوم أن أزمة أخرى قد أطلت برأسها وهي التي تظهر من خلال الانسداد الخانق الذي عطل آليات اتخاذ القرار وأدى إلى تآكل ما تبقى من هياكل الدولة، وما لم يسارع اليمنيون إلى فعل إنقاذي لاحتواء هذا الانهيار فإن الكارثة التي ستقع على رؤوسهم هي في تمزق اليمن وتحوله إلى مجموعة دويلات ترث الدولة الهشة التي حاولوا أن يثيروا عليها.
مشاركة :