نقد / الفساد وثنائية الأقطاب... في «غيثة تقطف القمر» لزهور كرام | ثقافة

  • 6/24/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

...المفارقة هنا: ما الذي يثير غضب الرأي العام، والمكشوف عنه قمامة، فهل يغضب الرأي العام من أجل قمامة؟! باعتبار ان النص تخيلي أدبي فلابد من استخدام المجاز والتصوير الاستعاري للقضية المعروضة لإضافة الفرادة، وإحداث التأثير المطلوب في نفس المتلقي. لذا انطلق السارد بتقنية تراسل الحواس، وهو مصطلح بلاغي عربي يستخدم عندما تعطى مدركات حاسة إلى حاسة أخرى، وهذه التقنية البلاغية وإن كانت تستخدم غالبا لكشف انفعالات المؤلف والحالة النفسية للشخصيات، إلا انها في النص استخدمت كما سنرى بالأمثلة الآتية لتأكيد الفكرة وإشراك الحواس كلها في ممارسة فعل الفضح وتعرية الفساد، إضافة إلى ان كل حاسة بحاجة لاستعارة وظيفة مضاعفة لتحقيق الأثر المطلوب في العمل وفي الحياة لاكتشاف الكثير من أسرار الحياة. فالأنف مرة في النص يشم رائحة الفساد، وهذه كناية عن انتشار وطغيان الفساد، بحيث لا يصعب عليها أن تشمه، ومن جانب آخر يتعين على الصحافي أن يفعل عنده حواسه كافة في البحث عن رائحة الأشياء الفاسدة، بوصفها درجة أقل في تحقيق الشهادة على الأحداث، أقل من السماع المباشر، أو حتى الرؤية البصرية المباشرة. بينما الشم يكون لأشياء غير مسموع عنها، وغير مرئية، وهي حالة سابقة للكشف عن الفساد. وتقول في موضع آخر: «أحسست نحيبا قادما من بئر عميقة. طرقت الباب مرة أخرى. كانت الطرقة خافتة. صدى الصرخة لا يزال أنينا يتسرب إلى جسدي» (72) وهنا يأتي عنف الصوت العالي ليؤثر على جسد غيثة بأكمله، يكون أنينا، فيتحول ألم الآخر عبر قناة الصوت إلى تشارك تام ومتبادل الإحساس بالألم، بين الذات والآخر، غيثة ومحيطها، جسد يتداعى مع أي تداعيات للآخر، كاشفة عن فكرة التضامن بين أفراد المجتمع بطريقة إيحائية وليست تقريرية. وتقول في موضع آخر: «انفلتت أذني مني والتصقت بالباب، أنفي بقي بعيدا هذه المرة، أشم أذني مني والتصقت بالباب، أنفي بقي بعيدا هذه المرة، أشم قرفه من أذني، أكاد ألمس غضبه وعتابه ونفوره من موطنه». (72) هنا الحواس نفسها تمارس ادراكاتها الخاصة بها بصورة مضاعفة، وبحساسية عالية، وكـأن اكتشاف ماهية الوجود لا يتم عبر الادراك العادي بل الادراك المضاعف، لتفكيك أسرار الفساد، وما تخفيه الأبواب المغلقة. أما الجانب الآخر في العبارة السابقة هو استخدام تراسل الحواس، أشم أذني مني، أشم قرفه من أذني، تعبيرا عن تشارك الحواس بالإحساس من القرف من العالم، فتصبح الحواس الخمسة جميعها آليات إدراك متضامنة في كشف ادراكاتها المتشابهة للعالم. الفساد وثنائية الأقطاب: بعد أن قامت غيثة بكشف قضية الفساد، ظهرت متلازمة دائمة في أي بيئة تثار فيها قضايا الفساد في العالم. فإن قضية الإصلاح تقع بين ثلاثة أطراف المؤيد والمعارض، وطرف ثالث محايد يكمن في الأغلبية الصامتة. فمن فريق المؤيد يبرز الصوت الآتي: «لكن، أليس من حق غيثة أن تستعمل أنفها، وإلا لماذا تحمله إذا لم توظفه من أجل مصلحة الوطن؟ يقول صحافي بجريدة الشفافية المستديمة». (36) أما الصوت المعارض فيظهر في شخصية ثانية معارضة لموقف غيثة: «لكن غيثة شهرت بشخصية من العيار الثقيل، يقال إنها من المفسدين الفاسدين». (37) وتظهر لنا هذه الثنائية الضدية بين موقفي الصحافة والأسماء الإعلامية (القرقوري والعرعوري) التي تشير إلى انعدام الأثر بين القرقرة الخالية من التأثير، إلى العرعرة التي تبدو حركة خالية من المنطق. من التحديات الصعبة التي تناقشها الرواية في مواجهة أي فعل فساد هو ثنائية الأقطاب بين الخير والشر، الذي يكون مؤسسا على شبكة من العلاقات المتينة غير القابلة للاختراق، فتغدو قضية الفساد هي قضية تبادل تصورات موافقة أو معارضة تخلي الفعل من قيمته، وتضعف تصور الرأي العام للقضايا المطروحة. والأمثلة الحية لهذه الثنائية القطبية ليست بعيدة عن التطبيق العملي في الحياة الفعلية خارج النص الأدبي، مثل ما أحدثته الثورات العربية من انقسامات حادة بين مؤيد ومعارض ومحايد غير مرئي. بنية التناقض في التصورات: الثنائية القطبية السابقة تقود إلى تناقض من نوع آخر في تصوراتنا لقيمة الممتلكات، مثلما يبرز في الحوار التالي بين عمر أخو غيثة ورفيقه: «أنت معك شهادة جامعية طز عليها، وأنا معي شهادة العوم». (17) من المفارقات الحادة في المجتمع ان الشهادة لا قيمة لها في المجتمع في زمن يحارب العلم والتنوير، ولا يعتني بالإصلاحيين، والمستنيرين، ما دام الفساد طاغيا، والمواطن مقموعا، ومستكينا. من التناقضات الأخرى والمهمة التي يكشفها السارد أيضا الشعارات المطروحة في المرافق الخدماتية التابعة للدولة: «يعيد قراءة الجملة بصوت مسموع: «خدمة المواطن رهان حزبنا في نشدان الديموقراطية»...«الأسبقية للمواطن الذي يقطن بالحي»...«خدمة المواطن شرف لنا»...«نخدم المواطن في ثانية». (63) وهي عبارات لغوية تقدم معنى مثاليا تسويقيا للمؤسسة ولكنها في الوقت ذاته خالية من الصحة، ذات تناقض أدائي كما يسميه هابرماس، إذ يعد المواطن بشيء لا يفعله أصلا. ومن جانب تفكيكي آخر لو أخذنا هذه العبارات وفق تفكيك دريدا، فهي عبارات تحمل في داخلها تناقضها، تعد بإيجابيات كثيرة سياق الحال بالنص يناقضها. فإذا كان بالفعل الوطن كذلك، لم يتساو من يملك شهادة جامعية ومن يحمل شهادة للعوم، ولم يضطر عمر للهجرة، ويكون ابن الوطن جثة ملقاة على أحد الشواطئ الغربية. فالهجرة تحمل علاقة ضدية مع الاستقرار والسعادة على أرض الوطن، الهجرة تعني الاقتلاع من الجذور بالنسبة لشخصية السارد، إذ يعلق على صمت عمر ورفيقه وهما في الطريق إلى الشتات ونسيان كل ما هو حميمي كشرط للتصالح مع الواقع الجديد من دون ذاكرة كرديف لهوية وطنية تربط الذات بالوطن: «كيف يكون الكلام في مثل هذه اللحظة الصاخبة المرعبة، حيث مضطر أنت أن تتخلى عن ذاكرتك، وأشيائك الحميمية، وبقايا طفولتك، ورائحة قهوتك، وعطر حبيبتك، فالبحر لا يقبل الزيادة في الوزن؟». (60) من هنا تكون العبارات المشار إليها أعلى دعائية، ومجرد استعراض لغوي ومبالغات تنطلي على البسطاء: لأن السارد يكرر في موضع آخر: «ألا تظن أن كل شيء صار فترينا». (30) مجرد عرض يخفي الكثير من التناقضات العميقة في النص، التي يحللها في أكثر من إشكالية في علاقة الرجل بالمرأة، والمواطن والإصلاح. • ناقدة وكاتبة كويتية.

مشاركة :