إن البواعث التي تسوق المرء إلى العمل، وتدفعه إلى إجادته، وتغريه بتحمّل التعب فيه، أو بذل الكثير من أجله، كثيرة مُتباينة. منها القريب الذي يكاد يُرى مع العمل، ومنها الغامض الذي يختفي في أعماق النفس. وربما لا يُدركه العامل المُتأثر به، مع أنه سر اندفاعاته في الحقيقة إلى فعل ما فعل، أو ترك ما ترك. والغرائز البشريّة المعروفة هي قواعد السلوك العام، ومن اليسير أن ترى في حركات رجل أمامك حُبه لنفسه، أو طلبه للسلامة، أو حرصه على المال، أو ميله للفخر، أو تطلعه للظهور. وما أكثر ما تكون مشاعر الإعجاب أو الكراهية أو المُحاكاة أو الكبرياء مصدر ما يدور بين الناس من حديث، وما يقع بينهم من تصرّفات. والإسلام يرقب، بعناية فائقة، ما يقارن أعمال الناس من نيّات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات. وقيمة العمل عنده ترجع - قبل كل شيء - إلى طبيعة البواعث التي تمخّضت عنه، قد يُعطي الإنسان هبة جزيلة، لأنه يريد بصنائع المعروف أن يستميل إليه القلوب، وقد يعطيها لأنه يُريد أن يُجزي خيراً من سبقوا فأسدوا إليه خيراً. وكلا المسلكين كرم دفع إليه شعور المرء بنفسه: سلباً أو إيجاباً كما يُعبّر علماء النفس، ولكن الإسلام لا يعتدّ بالصدقة إلا إذا خلصت من شوائب النفس، وتمخّضت لله وحده على ما وصف القرآن الكريم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا). (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى). ولتصحيح اتجاهات القلب، وضمان تجرّده من الأهواء الصغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ». إن ألوف المسافرين يقطعون المسافة بين مكة والمدينة، لأغراض شتى ولكن نية الانتصار للدين والحياة به، هي التي تفرّق بين المهاجر والمسافر! وإن كانت صورة العملين واحدة. فمن ترك مكة إلى المدينة، فراراً بدينه من الفتن، وإقامة لصرح الدولة الجديدة في بلدها الجديد، فهو المُهاجر، أما من رحل لشؤون أخرى فليس من الهجرة في شيء. إن صلاح النيّة وإخلاص الفؤاد لرب العالمين، يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت فيجعلانه عبادة مُتقبلة. وإن خبث الطوية، يهبط بالطاعات المحضة، فيقلبها معاصي شائنة، فلا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها، إلا الفشل والخسار. قد يبني الإنسان قصراً منيف الشرفات، فسيح الردهات، وقد يغرس حديقة ملتفة الأغصان متهدّلة الأثمار، وهو بين قصره المشيد، وبستانه النضيد، يُعد من ملوك الدنيا، بيد أنه إذا قصد من وراء بنيانه وغراسه نفع الناس، كان له فيهما ثواب غير مقطوع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى بنياناً في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غرساً في غير ظلم ولا اعتداء، كان له أجر جارٍ، ما انتفع به أحد من خلق الرحمن تبارك وتعالى». وقال: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة». بل إن اللذات التي ﺗﺘﺸﻬﺎﻫﺎ النفس، إذا صاحبتها النيّة الصالحة والهدف النبيل، تحوّلت إلى قربات.
مشاركة :